عشرُ زهِراتٍ يقطفُها منْ أراد الحياة الطيبة
1.جلسةٌ في السَّحر للاستغفارِ : ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾ .
2.وخلوةٌ للتفكُّرِ : ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ .
3.ومجالسةُ الصالحين : ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ﴾ .
4.والذِّكْر : ﴿ اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ .
5.وركعتانِ بخشوعٍ : ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ .
6.وتلاوةٌ بتدبُّرٍ : ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ .
7.وصيامُ يومٍ شديدِ الحرِّ : (( يدع طعامه وشرابه وشهواته منْ أجلي )) .
8.وصدقةٌ في خفاءٍ : (( حتى لا تعلم شمالهُ ما تنفقُ يمينُه )) .
9.وكشْفُ كربةٍ عنْ مسلمٍ : (( منْ فرَّج عنْ مسلمِ كربةً منْ كُربِ الدنيا فرَّج اللهُ عنه كربةً منْ كربِ يومِ القيامةِ )) .
10. وزهْدٌ في الفانيةِ : ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ .
تلك عشرةٌ كاملةٌ .
منْ شقاءِ ابنِ نوحٍ قولُه : ﴿ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ﴾ . ولو أوى إلى ربِّ الأرضِ والسماءِ لكان أجلَّ وأعزَّ وأمنع .
ومن شقاءِ النمرودِ قولهُ : أنا أُحيي وأُميتُ . فتقمَّص ثوباً ليس له ، واغتصب صفةً لا تحلُّ له ، فُبِهِت وخسأ وخاب .
﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ﴾ .
مفتاحُ السعادةِ كلمةٌ ، وميراثُ الملَّةِ عبارةٌ ، ورايةُ الفلاحِ جملةٌ ، فالكلمةُ والعبارةُ والجملةُ هي : لا إله إلا اللهُ . محمدٌ رسولُ اللهِ r .
سعادةُ منْ نطقها في الأرضِ : أن يُقال لهُ في السماءِ : صدقْتَ : ﴿ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ .
وسعادةُ منْ عمل بها : أنْ ينجو من الدمارِ والشَّنارِ والعارِ والنارِ : ﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ ﴾ .
وسعادةُ منْ دعا إليها : أنْ يٌعان ويُنْصَرَ ويُشْكَرَ : ﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ .
وسعادةُ منْ أحبَّها : أنْ يُرفع ويُكرَمَ ويُعزَّ : ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ .
هتف بها بلالٌ الرقيقُ فأصبح حرّاً : ﴿ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ﴾ .
وتلعثم في نطقهاِ أبو لهبٍ الهاشميُّ ، فمات عبداً ذليلاً حقيراً : ﴿ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ﴾ .
إنها الإكسيِرُ الذي يحولِّ الركام البشريَّ الفاني إلى قممٍ لإيمانيةٍ ربانيةٍ طاهرةٍ : ﴿ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ﴾ .
لا تفرحْ بالدنيا إذا أعرضْت عنِ الآخرةِ ، فإنَّ العذاب الواصب في طريقِك ، والغلَّ والنَّكالُ ينتظرُك : ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ{28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ ﴾ . ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ .
ولا تفرحْ بالولدِ إذا أعرضت عن الواحدِ الصمدِ ، فإنَّ الإعراض عنه كلُّ الخذلانِ ، وغايةُ الخسرانِ ، ونهايةُ الهوانِ : ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ .
ولا تفرحْ بالأموالِ إذا أسأت الأعمال ، فإنَّ إساءة العمل محقٌ للخاتمةِ وتبابٌ في المصيرِ ، ولعنةٌ في الآخرةِ : ﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى ﴾ ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ .
*************************************
وقفــةٌ
(( يا حيُّ يا قيومُ برحمتِك أستغيثُ )) : في رفع هذا الدعاءِ مناسبةٌ بديعةٌ ، فإنَّ صفة الحياةِ متضمِّنةً لجميع صفاتِ الكمالِ ، مستلزمةٌ لها ، وصفةُ القيَّوميةُ متضمِّنةٌ لجميعِ صفاتِ الأفعالِ ، ولهذا كان اسمُ اللهِ الأعظمُ الذي إذا دُعِيَ به أجاب ، وإذا سُئل به أعطى : هو اسمُ الحيُّ القيومُ . والحياةُ التامَّة تضادُّ جميع الأسقامِ والآلام ؛ ولهذا لما كمُلتْ حياةُ أهلِ الجنةِ ، لمْ يلحقْهُمْ همُّ ولا غمٌّ ولا حَزَنٌ ولا شيءٌ من الآفاتِ . ونقصانُ الحياةِ تضرُّ بالأفعالِ ، وتنافي القيومية ، فكمالُ القيوميةِ لكمالِ الحياةِ ، فالحيُّ المطلقُ التامُّ الحياةِ لا تفوتُه صفةُ الكمالِ ألبتة ، والقيومُ لا يتعذَّرُ عليه فعْل ممكن ألبتة ، فالتوسلُ بصفةِ الحياةِ والقوميةِ له تأثيرٌ في إزالةِ ما يُضادُّ الحياةَ ويضرُّ بالأفعالِ .
قال الشاعرُ :
لعمْرُك ما المكروهُ منْ حيث تتَّقي |
| وتخشى ولا المحبوبُ من حيثُ تَطْمَعُ |
وأكثرُ خوفِ الناسِ ليس بكائنِ | | فما درْكُ الهمِّ الذي ليس ينفعُ |
*************************************
تعامَلْ معَ الأمرِ الواقعِ
إذا هوَّنت ما قدْ عزَّ هان ، وإذا أيسْت من الشيءِ سلتْ عنهُ نفسُك : ﴿ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ﴾ .
قرأتُ أنَّ رجلاً قفز منْ نافذةٍ وكان بأصبعِه اليسرى خاتم ، فنشب الخاتمُ بمسمارِ في النافذةِ ، ومع سقوطِ الرجلِ اقتلع المسارُ أصبعه من أصلها ، وبقي بأربعُ أصابع ، يقولُ عنْ نفسِهِ : لا أكادُ أتذكَّرُ أن لي أربعُ أصابع في يدٍ فحسبُ ، أو أنني فقدتُ أصبُعاً من أصابعِي إلا حينما أتذكرُ تلك الواقعةَ ، وإلا فعلمي على ما يرامُ ، ونفسي راضيةٌ بما حدث : (( قدّر اللهُ وما شاء فعل )) .
وأعرفُ رجلاً بُتِرتْ يدُه اليسرى من الكتِفِ لمرضٍ أصابهُ ، فعاش طويلاً وتزوَّج ، ورُزق بنين ، وهو يقودُ سيارتهُ بطلاقةٍ ، ويؤدي عمله بارتياحٍ ، وكأنَّ اللهِ لم يخلقْ له إلا يداً واحدةً : (( ارض بما قسم اللهُ لك ، تكنْ أغنى الناس )) .
ما أسرع ما نتكيَّف مع واقعِنا ، وما أعجب ما نتأقلمُ مع وضعِنا وحياتِنا ، قبل خمسين سنةً كان قاعُ البيتِ بساطاً منْ حصيرٍ النخلِ ، وقربة ماءٍ ، وقدراً منْ فخارٍ ، وقصعةً ، وجفنةً، وإبريقاً ، وقامتْ حياتُنا واستمرتْ معيشتُنا ، لأننا رضينا وسلَّمنا وتحاكمْنا إلى واقعِنا.
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبْتها | | وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقْنعُ |
وقعتْ قتنةٌ بين قبيلتينِ في الكوفةِ في المسجدِ الجامعِ ، فسلُّوا سيوفهم ، وامتشقوا رماحهم ، وهاجتْ الدائرةُ ، وكادتِ الجماجمُ تفارقُ الأجسادَ ، وانسلَّ أحدُ الناسِ من المسجدِ ليبحث عن المُصْلحِ الكبيرِ والرجلِ الحليمِ ، الأحنفِ بنِ قيسٍ ، فوجدهُ في بيتِه يِحلبُ غنمه ، عليه كساءٌ لا يساوي عشرة دراهم ، نحيلُ الجسمِ ، نحيفُ البنيةِ ، أحنفُ الرجلين ، فأخبروه الخبرَ فما اهتزتْ في جسمِهِ شعرةٌ ولا اضطرب ؛ لأنه قدِ اعتاد الكوارث ، وعاش الحوادث ، وقال لهم : خيراً إنْ شاء اللهُ ، ثم قُدِّم له إفطارُه وكأنْ لم يحدثْ شيءٌ ، فإذا إفطارهٌ كِسْرةٌ من الخبزِ اليابسِ ، وزيتٌ وملحٌ ، وكأسٌ من الماءِ ، فسمَّى وأكل ، ثمَّ حمدَ اللهَ ، وقال : بُرٌّ منْ بُرِّ العراق ، وزيتٌ من الشامِ ، مع ماءِ دجلة ، وملح مرو ، إنها لنعمٌ جليلةٌ . ثم لبس ثوبَهَ ، وأخذ عصاهُ ، ثم دلف على الجموعِ ، فلمّا رآه الناسُ اشرأبَّتْ إليه أعناقُهم ، وطفحتْ غليه عيونُهم ، وأنصتوا لما يقولُ ، فارتحل كلمة صُلْحٍ ، ثمَّ طلب من الناسِ التفرُّق ، فذهب كلُّ واحداً منهمْ لا يلوي على شيءٍ ، وهدأت الثائرةُ ، وماتتِ الفتنةُ .
قدْ يدركُ الشرف الفتى ورداؤُهُ | | خَلَقٌ وجيْبُ قميصِه مَرْقوعُ |
· في القصةِ دروسٌ ، منها :
أنَّ العظمة ليستْ بالأبهةِ والمظهرِ ، وأنَّ قلَّة الشيءِ ليستْ دليلاً على الشقاءِ ، وكذلك السعادةُ ليستْ بكثرةِ الأشياءِ والترفُّهِ : ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ{15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ .
وأنَّ المواهب والصفاتِ الساميةِ هي قيمةُ الإنسان ، لا ثوْبُهُ ولا نعلُهُ ولا قَصْرُهُ ولا دارُهُ ، إنها وزنهُ في علمهِ وكرمهِ وحلمهِ وعقلهِ : ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ . وعلاقةُ هذا بموضوعِنا أن السعادة ليستْ في الثراءِ الفاحشِ ، ولا في القصْرِ المنيفِ ، ولا في الذهبِ والفضَّةِ ، ولكنَّ السعادةَ في القلبِ بإيمانهِ ، برضاهُ ، بأنسهِ ، بإشراقهِ : ﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ ﴾ ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ .
عوِّدْ نفسك على التسليمِ بالقضاءِ والقدرِ ، ماذا تفعلُ إذا لمْ تؤمنْ بالقضاءِ والقدرِ ، هلْ تتخذُ في الأرضِ نفقاً أو سُلَّماً في السماءِ ، لنْ ينفعك ذلك ، ولنْ ينقذك من القضاءِ والقدرِ . إذنْ فما الحلّ ؟
الحلُّ : رضينا وسلَّمنا: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾.
منْ أعنفِ الأيام في حياتي ، ومن أفظعِ الأوقاتِ في عمري : تلك الساعةُ التي أخبرني فيها الطبيبُ المختصُّ ببترِ يد أخي محمدٍ – رحمه اللهُ – من الكتفِ ، ونزل الخبرُ على سمعي كالقذيفةِ ، وغالبتُ نفسي ، وثابتْ روحي إلى قولِ المولى : ﴿ َا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ ، وقولهِ : ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ .
كانتْ هذه الآياتُ برْداً وسلاماً وروْحاً وريْحاناً .
وليس لنا من حيلةٍ فنحتالُ ، إنما الحيلةُ في الإيمانِ والتسليمِ فَحَسْبُ ، ﴿ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴾ ﴿ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ .
إن الخنساء النخعيةَ تُخبرُ في لحظةٍ واحدةِ بقتلِ أربعةِ أبناءٍ لها في سبيلِ اللهِ بالقادسيةِ ، فما كان منها إلا أنْ حمدتِ ربَّها ، وشكرتْ مولاها على حُسْن الصنيعِ ، ولطفِ الاختيارِ ، وحلولِ القضاءِ ؛ لأنَّ هناك معيناً من الإيمانِ ، ورافداً من اليقينِ لا ينقطعُ ، فمثلُها تشكرُ وتُؤجرُ وتسعدُ في الدنيا والآخرةِ ، وإذا لمْ تفعلْ هذا فما هو البديلُ إذنْ ؟! التسخُّطُ والتضجُّرُ والاعتراضُ والرفضُ ، ثم خسارةُ الدنيا والآخرةِ ! (( فمنْ رضي فلهُ الرَّضا ، ومنْ سخط فله السخطُ )) .
إن بلسم المصائبِ وعلاج الأزماتِ ، قولُنا : إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون .
والمعنى : كلُّنا للهِ ، فنحنُ خَلْقُه وفي ملكِهِ ، ونحنُ نعودُ إليهِ ، فالمبدأُ منه ، والمعادُ إليه ، والأمرُ بيدهِ ، فليس لنا من الأمرِ شيءٌ .
نفسي التي تملكُ الأشياء ذاهبةٌ | | فكيف أبكي على شيءٍ إذا ذهبا |
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ ، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ ،﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ .
لو فوجئت بخبرٍ صاعقِ باحتراقِ بيتِك ، أو موتِ ابنك ، أو ذهابِ مالك فماذا عساك أنْ تفعل ؟ من الآنِ وطِّنْ نفسك ، لا ينفعُ الهربُ ، لا يجدي الفرارُ والتملُّصُ من القضاء والقدر ، سلِّمْ بالأمرِ ، وارض بالقدرِ ، واعترفْ بالواقعِ ، واكتسبِ الأجر ، لأنه ليس أمامك إلا هذا . نعمْ هناك خيارٌ آخرُ ، ولكنه رديءٌ أحذِّرك منُه ، إنه : التبرُّمُ بما حَصَلَ والتضجُّرُ مما صار ، والثورةُ والغضبُ والهيجان ، ولكنْ تحصلُ على ماذا منْ هذا كلِّه ؟! إنك سوف تنالُ غضب الربِّ جلَّ في عليائِه ، ومقْت الناسِ ، وذهاب الأجْرِ ، وفادح الوزرِ ، ثمَّ لا يعودُ عليك المصاب ، ولا ترتفعُ عنك المصيبةُ ، ولا ينصرفُ عنك الأمرُ المحتومُ : ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾ .
**************************************
ما تحزنُ لأجلِهِ سينتهي
فإنَّ الموتَ مقدمٌ على الكلِّ : الظالمِ والمظلومِ ، والقويِّ والضعيفِ ، والغنيِّ والفقيرِ ، فلست بِدعاً من الناسِ أنْ تموت ، فقبلك ماتتْ أممٌ وبعدك تموتُ أممٌ .
ذكر ابنُ بطوطة أنَّ في الشمالِ مقبرةً دُفن ألفُ ملِكٍ عليها لوحةٌ مكتوبٌ فيها :
وسلاطينُهم سلِ الطين عنهمُ | | والرؤوسُ العظامُ صارتْ عظاماً |
إنَّ الأمرَ المذهل في هذا : غفلةُ الإنسانِ عنْ هذا الفناءِ المداهمِ له صباح مساء ، وظنُّه أنهُ خالدٌ مخلَّدٌ منعَّمٌ ، وتغافلُه عن المصيرِ المحترمِ وتراخيه عن النهايةِ الحقَّةِ لكلِّ حيٍّ : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ ، ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ﴾ .
لما أهلك اللهُ الأمم ، وأباد الشعوب ، ودمَّرَ القُرى الظالمةَ وأهلها ، قال–عزَّ مِنْ قائل-: ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ﴾ ؟! انتهى كلُّ شيءٍ عنهمْ إلا الخبرَ والحديث .
هل عندكمْ خبرٌ منْ أهلِ أندلسٍ | | فقدْ مضى بحديثِ القومِ ركبانُ |
************************************
وقفــةٌ
دعاء الكربِ : مشتمِلٌ على توحيدِ الإلهيةِ والربوبيةِ ، ووصفِ الربِّ سبحانهُ بالعظمةِ والحِلمِ ، وهاتانِ الصفتانِ مستلزمتانِ لكمالِ القدرةِ والرحمةِ ، والإحسانِ والتجاوزِ ، ووصْفهِ بكمالِ ربوبيتِه للعالمِ العلويِّ والسُّفليِّ والعرشِ الذي هو سقفُ المخلوقاتِ وأعظمُها .
والربوبيةُ التامَّةُ تستلزمُ توحيده ، وأنهُ الذي لا تنبغي العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاءُ والإجلالُ والطاعةُ إلا لهُ . وعظمتُه المطلقةُ تستلزمُ إثبات كلِّ كمالٍ لهُ ، وسلب كلِّ نقصٍ وتمثيلٍ عنهُ ؛ وحِلمُهُ يستلزمُ كمال رحمتِهِ وإحسانِهِ إلى خلقِهِ .
فعلْمُ القلبِ ومعرفتُهُ بذلك تُوجبُ محبتُهُ وإجلالُهُ وتوحيدُهُ ، فيحصلُ له من الابتهاجِ واللذةِ والسرورِ ما يدفعُ عنهُ ألم الكْربِ والهمِّ والغمِّ ، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليهِ ما يسُرُّهُ ويُفرحُه ، ويُقوِّي نفسهُ ، كيف تقوى الطبيعةُ على دفعِ المرضِ الحسيِّ ، فحصولُ هذا الشفاءِ للقلبِ أولى وأحرى .
No comments:
Post a Comment