Wednesday, July 14, 2010

مفهومُ الحياةِ الطَّيِّبةِ

مفهومُ الحياةِ الطَّيِّبةِ

يقولُ أحدُ أذكياءِ الإنكليزِ : بإمكانك وأنت في السجنِ منْ وراءِ القضبانِ الحديديةِ أنْ تنظُرَ إلى الأُفُقِ ، وأنْ تُخْرِج زهرةً منْ جيبِك فتشُمَّها وتبتسم ، وأنت مكانك ، وبإمكانِك وأنت في القصْرِ على الديباج والحريرِ ، أنْ تحتدَّ وأنْ تغضب وأنْ تثور ساخطاً منْ بيتِك وأسرتِك وأموالِك .

إذنْ السعادةُ ليستْ في الزمانِ ولا في المكانِ ، ولكنَّها في الإيمانِ ، وفي طاعةِ الدَيَّانِ ، وفي القلبِ . والقلبُ محلُّ نظرِ الرَّبَّ ، فإذا استقرَّ اليقينُ فيه ، انبعثتِ السعادةُ ، فأضفتْ على الروح وعلى النفسِ انشراحاً وارتياحاً ، ثمَّ فاضتْ على الآخرين ، فصارتْ على الظِّرابِ وبطونِ الأودية ومنابتِ الشجرِ .

أحمدُ بنُ حنبل عاش سعيداً ، وكان ثوبُه أبيض مرقَّعاً ، يخيطُه بيدِهِ ، وعندهُ ثلاثُ غُرفٍ منْ طينٍ يسكُنها ، ولا يجدُ إلا كِسرَ الخُبْزِ مع الزيتِ ، وبقي حذاؤه – كما قال المترجمون عنهُ – سبع عشرة سنةً يرقِّعها ويخيطُها ، ويأكلُ اللحم في شهرٍ مرَّةً ويصومُ غالب الأيامِ ، يذرعُ الدنيا ذهاباً وإياباً في طلَبِ الحديثِ ، ومع ذلك وجد الراحة والهدوء والسكينة والاطمئنان ؛ لأنهُ ثابتُ القدم ، مرفوعُ الهامةِ ، عارفٌ بمصيرِه ، طالبٌ لثوابٍ ، ساعٍ لأجرٍ ، عاملٌ لآخرةٍ ، راغبٌ في جنَّةٍ .

وكان الخلفاءُ في عهدِه – الذين حكموا الدنيا – المأمونُ ، والواثقُ ، والمعتصمُ ، والمتوكلُ عندهم القصورُ والدُّورُ والذهبُ والفضةُ والبنودُ والجنودُ ، والأعلامُ والأوسمةُ والشاراتُ والعقاراتُ ، ومعهمْ ما يشتهون ، ومع ذلك عاشُوا في كَدَرٍ ، وقَضَوْا حياتَهم في همٍّ وغمٍّ ، وفي قلاقل وحروبٍ وثوراتٍ وشَغَبٍ وضجيجٍ ، وبعضُهم كان يتأوَّهُ في سكراتِ الموتِ نادماً على ما فرَّط ، وعلى ما فعل في جنبِ اللهِ .

ابنُ تيمية شيخُ الإسلامِ ، لا أهل ولا دار ولا أسرة ولا مال ولا منصب ، عندهُ غرفةٌ بجانبِ جامعِ بني أمية يسكنُها ، ولهُ رغيفٌ في اليومِ ، وله ثوبانِ يغيِّر هذا بهذا ، وينامُ أحياناً في المسجدِ ، ولكنْ كما وَصَف نفسه : جنَّتُه في صدرِه ، وقتْلُه شهادةٌ ، وسجْنه خِلْوةٌ ، وإخراجهُ منْ بلدِهِ سياحةٌ ؛ لأن شجرة الإيمانِ في قلبِهِ استقامتْ على سُوقِها ، تُؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها يمُدُّها زيتُ العنايةِ الربانيةِ ، ﴿ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ، ﴿ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ،﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ،﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ .

خرج أبو ذرٍّ رضي اللهُ عنه وأرضاهُ إلى الرَّبذةِ ، فنصب خيمتهُ هناكَ ، وأتى بامرأتِه وبناتِهِ ، فكان يصومُ كثيراً من الأيامِ ، يذكُرُ مولاهُ ، ويسبِّحُ خالقهُ ، ويتعبَّدُ ويقرأُ ويتلو ويتأمَّلُ ، لا يملكُ من الدنيا إلا شمْلةً أو خيمةً ، وقطعةً من الغنمِ مع صحْفةٍ وقصْعةٍ وعصا ، زارَهُ أصحابُه ذات يوم ، فقالوا : أين الدنيا؟ قال : في بيتي ما أحتاجُه من الدنيا ، وقدْ أخبرنا r أنَّ أمامنا عقبةً كؤوداً لا يجيزُها إلا المُخِفُّ .

كان منشرحَ الصدرِ ، ومنثلج الخاطرِ ، فعندهُ ما يحتاجُه من الدنيا ، أمّا ما زاد على حاجتِه ، فأشغالٌ وتبِعاتٌ وهمومٌ وغمومٌ .

قلتُ في قصيدةٍ بعنوان : أبو ذرٍّ في القرن الخامسِ عَشَرَ ، متحدِّثاً عنْ غُربةِ أبي ذرٍّ وعن سعادتِه ، وعن وحدتِه وعزلتِه ، وعن هجرتِه بروحِه ومبادئِه ، وكأنه يتحدثُ عن نفسِه :

لاطفُوني هدَّدْتُهم هدَّدُوني



بالمنايا لاطفتُ حتى أحسَّا

أركبُوني نزلتُ أركبُ عزْمي




أنزلُوني ركِبتُ في الحقِّ نفْسا

أطرُدُ الموت مُقْدِماً فيُولِّي




والمنايا أجتاحُها وهْي نعْسَى

قد بكتْ غربتي الرمالُ وقالتْ




يا أبا ذرٍّ لا تخفْ وتأسَّا

قلتُ لا خوف لم أزلْ في شبابٍ




مِنْ يقيني ما مِتُّ حتى أُدسَّا

أنا عاهدتُ صاحِبِي وخليلي


وتلقَّنْتُ منْ أمالِيهِ درْسا

***************************************************

إذنْ فما هي السعادةُ ؟!

(( كنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل )) ، (( فطوبى للغرباءِ )) .

ليسِ السعادةُ قصر عبدِالملك بنِ مروان ، ولا جيوش هارونِ الرشيدِ ولا دُور ابنِ الجصَّاصِ ، ولا كنوز قارون ، ولا في كتابِ الشفاءِ لابنِ سينا ، ولا في ديوانِ المتنبي ، ولا في حدائقِ قرطبة ، أو بساتينِ الزهراءِ .

السعادةُ عند الصحابِة مع قلَّةِ ذاتِ اليدِ ، وشظفِ المعيشةِ ، وزهادهِ المواردِ ، وشُحِّ النَّفقةِ .

السعادةُ عند ابنِ المسيبِ في تألُّهِه ، وعند البخاري في صحيحِهِ ، وعند الحسنِ البصريِّ في صِدْقِهِ ، ومع الشافعيِّ في استنباطاتِه ، ومالكٍ في مُراقبتِه ، وأحمد في ورعِهِ ، وثابتٍ البنانيِّ في عبادتهِ ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ .

ليستِ السعادةُ شيكاً يُصرفُ ، ولا دابةً تُشترَى ، ولا وردةً تُشَمّ ، ولا بُرّاً يُكالُ ، ولا بزّاً يُنشرُ .

السعادةُ سلوةُ خاطرٍ بحقٍّ يحمِلُه ، وانشراحُ صدرٍ لمبدأ يعيشُه، وراحةُ قلبٍ لخيرٍ يكْتنِفُه.

كنّا نظُنُّ أننا إذا أكثْرنا من التوسٌّعِ في الدُّوِر ، وكثْرةِ الأشياءِ ، وجمْعِ المسهِّلاتِ والمرغِّباتِ والمشتهياتِ ، أننا نسعدُ ونفرحُ ونمرحُ ونُسرُّ ، فإذا هي سببُ الهمِّ والكَدَرِ والتنغيصِ ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ بهمِّه وغمِّه وضريبةِ كدِّهِ وكدْحِهِ ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ .

إنَّ أكبر مُصلِحٍ في العالمِ رسولُ الهدى محمدٌ r ، عاش فقيراً ، يتلوَّى من الجوعِ ، لا يجدُ دقْلَ التمرِ يسدُّ جوعه ، ومع ذلك عاش في نعيمٍ لا يعلمُه إلا اللهُ ، وفي انشراحٍ وارتياحٍ ، وانبساطٍ واغتباطٍ ، وفي هدوءٍ وسكينةٍ ﴿ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ{2} الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ، ﴿ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ، ﴿ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ .

في الحديثِ الصحيحِ : (( البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ ، والإثم ما حاك في صدرِك وكرهْت أن يطلع عليه الناسُ )) .

إنَّ البرَّ راحةٌ للضميرِ ، وسكونٌ للنفسِ ، حتى قال بعضُهم :

البرُّ أبقى وإنْ طال الزَّمانُ به

والإثمُ أقبحُ ما أوعيت منْ زادِ

وفي الحديث : (( البرُّ طُمأنينةٌ ، والإثم ريبةٌ )) . إنَّ المحسن صراحةً يبقى في هدوءٍ وسكينةٍ ، وإنَّ المريب يتوجَّسُ من الأحداثِ والخطراتِ ومن الحركاتِ والسَّكناتِ ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ . والسببُ أنه أساء فحسْبُ ، فإنَّ المسيء لابدَّ أنْ يقلق وأنْ يرتبِك وأنْ يضطرب ، وأنْ يتوجَّس خِيفةً .

إذا ساءِ فِعْلُ المرءِ ساءتْ ظنونُهُ

وصدَّق ما يعتادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ

والحلُّ لمنْ أراد السعادة ، أنْ يُحْسن دائماً ، وأنْ يتجنَّب الإساءة ، ليكون في أمنٍ ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ .

أقبل راكبٌ يحثُّ السير ، يثورُ الغبارُ منْ على رأسِهِ ، يريدُ سعد بن أبي وقَّاصٍ ، وقدْ ضرب سعدٌ خيمتهُ في كبِدِ الصحراءِ ، بعيداً عنِ الضجيجِ ، بعيداً عنِ اهتماماتِ الدَّهْماءِ ، منفرداً بنفسِهِ وأهلِهِ في خيمتِهِ ، معهُ قطيعٌ من الغنمِ ، فاقترب الراكبُ فإذا هو ابنُه عُمَرُ ، فقال ابنُه له : يا أبتاهُ ، الناسُ يتنازعون الملك وأنت ترعى غنمك . قال : أعوذُ باللهِ منْ شرِّك ، إني أولى بالخلافةِ منِّي بهذا الرداءِ الذي عليَّ ، ولكن سمعتُ الرسول r يقولُ : (( إنَّ الله يحبُّ العبد الغنيَّ التَّقيَّ الخفيَّ )) .

إن سلامة المسلمِ بدينِه أعْظمُ منْ مُلكِ كسرى وقيصر ؛ لأنَّ الدين هو الذي يبقى معك حتى تستقرَّ في جناتِ النعيمِ ، وأما الملكُ والمنصبُ فإنَّهُ زائلٌ لا محالة ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ .

*******************************************

إليهِ يصعدُ الكلِمُ الطَّيَّبُ

كان للصحابةِ كنوزٌ من الكلماتِ المباركاتِ الطَّيِّباتِ ، التي عَّمهم إياها صفوةُ الخلْقِ r .

وكلُّ كلمةٍ عند أحدِهم خيرٌ من الدنيا وما فيها ، ومِنْ عظمتِهمْ معرفتُهم بقيمةِ الأشياءِ ومقاديرِ الأمورِ .

أبو بكرٍ يسألُ الرسول r أنْ يُعلِّمه دعاءً ، فقال له : (( قلْ : ربِّ إني ظلمتُ نفسي ظُلماً كثيراً ، ولا يغفرُ الذنوب غلا أنت ، فاغفرْ لي مغفرةً منْ عندِك وارحمني ، إنك أنت الغفورُ الرحيمُ )) .

ويقولُ r للعباسِ : (( اسألِ الله العفو والعافية )) .

ويقولُ لعليٍّ : (( قلْ : اللَّهمَّ اهدنِي وسدِّدْني )) .

ويقولُ لعبيدِ بنِ حصينٍ : (( قلْ : اللهمَّ ألهمْنِي رُشدي ، وقِنِي شرَّ نفسْي )) .

ويقولُ لشدَّادِ بن أوسٍ : (( قلْ : اللهمَّ إني أسالُك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشدِ ، وشُكرَ نعمتِك ، وحُسْنَ عبادتِك ، وأسألُك قلباً سليماً ، ولساناً صادقاً ، وأسألُك مِنْ خَيْرِ ما تعْلمُ ، وأعوذُ بك منْ شرِّ ما تعلمُ ، وأستغفرُك لما تعلمُ ، إنك أنت علاَّمُ الغيوبِ )) .

ويقولُ لمعاذٍ : (( قلْ : اللهمَّ أعني على ذكرِك وشُكْرِك وحُسْنِ عبادتِك )) .

ويقولُ لعائشة : (( قولي : اللهم إنك عفُوٌّ تحبُّ العَفْوَ ، فاعْفُ عنِّي )) .

إنَّ الجامعَ لهذهِ الأدعيةِ : سؤالُ رضوانِ اللهِ عزَّ وجلَّ ورحمتِهِ في الآخرةِ ، والنَّجاةِ منْ غضبِه ، وأليمِ عقابِه ، والعونِ على عبادتِه سبحانه وتعالى وشكرِه .

وإنَ الرّابط بينها : طَلَبُ ما عند اللهِ ، والإعراضُ عمَّ في الدنيا . إنهُ ليس فيها طلبُ أموالِ الدنيا الفانيةِ ، وأعراضِها الزائلِة ، أو زخرِفها الرخيصِ .

**************************************

﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى

وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ

إنَّ منْ تعِاسةِ العبدِ ، وعثْرةِ قدمِهِ وسقوطِ مكانتِهِ : ظُلمُهُ لعبادِ اللهِ ، وهضْمُهُ حقوقهم ، وسحْقُه ضعيفهم ، حتى قال أحدُ الحكماءِ : خفْ ممَّن لم يجدْ له عليك ناصراً إلا الله .

ولقدْ حفظ لنا تاريخُ الأممِ أمثلةً في الأذهانِ عنْ عواقبِ الظَّلمةِ .

فهذا عامرُ بنُ الطفيل يكيد للرسول r ، ويحاولُ اغتيالهُ ، فيدعو عليه r ، فيبتليه اللهُ بغدَّةٍ في نحْرِه ، فيموتُ لساعتِه ، وهو يصرخُ من الألمِ .

وأربدُ بنُ قيسٍ يؤذي رسول اللهِ r ، ويسعى في تدبيِر قتْلِهِ ، فيدعو عليه ، فيُنزلُ اللهُ عليه صاعقةً تحرقُه هو وبعيرُه .

وقبل أنْ يقتُل الحجاجُ سعيد بن جبيرٍ بوقتٍ قصيرٍ ، دعا عليه سعيدٌ وقال : اللَّهمَّ لا تسلِّطْهُ على أحدٍ بعدي . فأصاب الحجاجَ خُرَّاجٌ في يدهِ ، ثمَّ انتشر في جسمِهِ ، فأخذ يخوُر كما يخورُ الثورُ ، ثم مات في حالةٍ مؤسفةٍ .

واختفى سفيانُ الثوريُّ خَوْفاً منْ أبي جعفرِ المنصورِ ، وخرج أبو جعفر يريدُ الحرمَ المكِّيَّ وسفيانُ داخل الحرمِ ، فقام سفيانُ وأخذ بأستارِ الكعبةِ ، ودعا الله عزَّ وجلَّ أن لا يُدِخِلَ أبت جعفر بيته ، فمات أبو جعفر عند بئرِ ميمونٍ قبل دخولِه مكَّةَ .

وأحمدُ بن أبي دؤادٍ القاضي المعتزليُّ يُشاركُ في إيذاءِ الإمامِ أحمدِ بن حنبل فيدعو عليهم فيُصيبُه اللهُ بمرض الفالجِ فكان يقول : أمَّا نصفُ جسمي ، فلوْ وقع عليه الذبابُ لظننتُ أنَّ القيامة قامتْ ، وأمَّا النصفُ الآخرُ ، فلو قُرِض بالمقاريض ما أحسستُ .

ويدعو أحمدُ بنُ حنبل أيضاً على ابن الزَّيّاتِ الوزيرِ ، فيسلِّطُ اللهُ عليه منْ أخذَهُ ، وجعَلَهُ في فرنٍ من نارٍ ، وضرب المسامير في رأسِه .

وحمزةُ البسيونيُّ كان يعذِّبُ المسلمين في سجنِ جمالِ عبدِالناصر ، ويقولُ في كلمةٍ له مؤذية : « أين إلُهكمْ لأضعَهُ في الحديدِ » ؟ تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظالمون علوّاً كبيراً . فاصطدمتْ سيارتُه – وهو خارجٌ من القاهرةِ إلى الإسكندريةِ – بشاحنةٍ تحملُ حديداً ، فدخل الحديدُ في جسمه منْ أعلى رأسِهِ إلى أحشائِه ، وعَجَزَ المنقذون أنْ يُخرجوُه إلا قطعاً ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ، ﴿ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً .

وكذلك صلاحُ نصرٍ منْ قادةِ عبدِالناصرِ ، وممَّنْ أكثرَ في الأرضِ الظلُّم والفساد ، أصيب بأكثر منْ عشرةِ أمراضٍ مؤلمةٍ مُزمِنةٍ ، عاش عدَّة سنواتٍ منْ عمرِهِ في تعاسةٍ ، ولم يجدْ لهُ الطبُّ علاجاً ، حتى مات سجيناً مزجوجاً بهِ في زنزاناتِ زعمائِه الذين كان يخدمُهمْ .

﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ{11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ{12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ، (( إنَّ الله ليُمْلي للظالمِ ، حتى إذا أخذهُ لم يُفْلِتْه )) ، (( واتَّقِ دعوة المظلومِ ، فإنه ليس بينها وبين اللهِ حجابٌ )) .

قال إبراهيمُ التيميُّ : إنَّ الرجل ليظلمُني فأرحَمُهُ .

وسُرقتْ دنانيرُ لرجلٍ صالح منْ خراسان ، فجعل يبكي ، فقال له الفضيلُ : لِم تبكي ؟ قال : ذكرتُ أنَّ الله سوف يجمعُني بهذا السارقِ يوم القيامةِ ، فبكيتُ رحمةً له .

واغتاب رجُلٌ أحد علماءِ السلفِ ، فأهدى للرجُلِ تمراً وقال : لأنهُ صنع لي معروفاً .

*****************************************

قلتُ : بالبابِ أنا

على هيئةِ الأممِ المتحدةِ بنيويورك لوحةٌ ، مكتوبٌ عليها قطعةٌ جميلةٌ للشاعرِ العالميِّ السعدي الشيرازي ، وقدْ ترجمتْ إلى الإنجليزيةِ وهي تدعو إلى الإخاءِ والأُلفةِ والاتحادِ ، يقول:

قال لي المحبوبُ لمَّا زرتُهُ



منْ ببابي قلتُ بالبابِ أنا

قال لي أخطأت تعريف الهوى




حينما فرَّقت فيه بيْنَنَا

ومضى عامٌ فلمَّا جئتُهُ




أطرُقُ الباب عليه مُوهِنا

قال لي منْ أنتَ قلتُ أنْظُرْ فما




ثم َّ إلاَّ أنتَ بالبابِ هُنا

قال لي أحسنت تعريف الهوى


وعَرَفْتَ الحُبَّ فادخُلْ يا أنا

لابُدَّ للعبد منْ أخٍ مفيدٍ يأنسُ إليه ، ويرتاحُ إليه ، ويُشاركُه أفراحهُ وأتراحهُ ، ويبادلُه ودّاً بودٍّ . ﴿ وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي{29} هَارُونَ أَخِي{30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي{31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي{32} كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً{33} وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً .

ولابدُّ منْ شكوى إلى ذي قرابةٍ

يُواسيك أو يُسلِيك أو يَتَوجَّعُ

﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ، ﴿ كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ، ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ .

******************************************

لابدَّ منْ صاحبٍ

إنَّ منْ أسبابِ السعادةِ أنْ تجد منْ تنفعُك صُحبتُه ، وتُسعدُك رفقتُه . (( أين المتحابُّون في جلالي ، اليوم أُظِلُّهمْ في ظِلِّي يوم لا ظِلَّ إلا ظلِّي )) .

(( ورجلانِ تحابَّا في اللهِ ، اجتمعا عليهِ وتفرَّقا عليِه )) .

*******************************************

الأمْنُ مطلبٌ شرعيٌّ وعقليٌّ

﴿ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ، ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ، ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً ، ﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ، ﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ .

(( منْ بات آمِناً في سِرْبِهِ ، مُعافىً في بدنِهِ ، عنده قُوتُ يومِهِ ، فكأنَّما حِيزتْ له الدنيا بحذافيرِها )) .

فأمنُ القلبِ : إيمانُه ورسوخُه في معرفةِ الحقِّ ، وامتلاؤُه باليقينِ .

وأمْنُ البيتِ : سلامتُه من الانحرافِ ، وبُعْدُه عنِ الرذيلةِ ، وامتلاؤُهُ بالسكينةِ ، واهتداؤه بالبرهانِ الرَّبّانيِّ .

وأمْنُ الأمةِ : جمْعُها بالحبِّ ، وإقامةُ أمرِها بالعَدْلِ ، ورعايتُها بالشريعةِ .

والخوف عدوُّ الأمنِ ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ، ﴿ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ .

ولا راحة لخائفٍ ولا أمْن لملحِدٍ ، ولا عيش لمريضٍ .

إنَّما العُمرُ صحَّةٌ وكفافٌ

فإذا وليا عن العُمرِ ولَّى

للهِ ما أتْعسَ الدَّنيا ، إنْ صحَّتْ منْ جانبٍ فسدتْ منْ جانبٍ آخر ، إنْ أقبل المالُ مَرِضَ الجسمُ ، وإنْ صحَّ الجسمُ حلَّتِ المصائبُ ، وإنْ صلُح الحالُ واستقام الأمرُ حلَّ الموتُ .

خرج الشاعرُ الأعشى منْ ( نجدٍ ) إلى الرسولِ r يمتدحُه بقصيدةٍ ويسلمُ ، فعرض له أبو سفيان فأعطاهُ مائة ناقةٍ ، على أنْ يترك سفَرَهُ ويعود إلى ديارِهِ ، فأخذ الإبل وعاد ، وركب أحدها فهو جلتْ به ، فسقط على رأسِهِ ، فاندقَّتْ عنقُهُ ، وفارق الحياة ، بلا دينٍ ولا دنيا. أمَّ قصيدتُه التي هيَّأها ليقولها بين يديْ رسول اللهِ r ، فهي بديعةُ الحُسْنِ يقولُ فيها:

شبابٌ وشيبٌ وافتقارٌ وثروةٌ



فللّهِ هذا الدَّهرُ كيف تردَّدا

إذا أنت لمْ ترْحلْ بزادٍ من التُّقى




ولاقيت بعد الموتِ منْ قدْ تزوَّدا

ندمْت على أنْ لا تكون كمثْلِهِ


وأنَّك لمْ تُرْصِدْ لما كان أرْصدَا

***************************************

أمجادٌ زائلةٌ

إنَّ منْ لوازمِ السعادةِ الحقَّةِ أنْ تكون دائمةً تامَّةً ، فدوامُها أنْ تكون في الدنيا والآخرةِ ، في الغيبِ والشهادةِ ، اليوم وغداً .

وتمامُها أنْ لا يُنغِّصها نكَدٌ ، وأنْ لا يخْدشَ وجهُ محاسِنها بسخطٍ .

جلس النعمانُ بنُ المنذرِ – ملكُ العراقِ – تحت شجرةٍ متنزَّهاً يشربُ الخَمْرَ فأراد عديُّ بنُ زيد – وكان حكيماً – أنْ يعظه بلفظٍ فقال له : أيُّها الملكُ ، أتدري ماذا تقولُ هذهِ الشَّجرةُ ؟ قال الملكُ : ماذا تقول : قال عديٌّ : تقولُ :

رُبَّ ركبِ قدْ أناخُوا حولنا



يمْزُجُون الخمر بالماءِ الزُّلالْ

ثمَّ صاروا لَعِب الدَّهْرُ بهمْ


وكذاك الدَّهرُ حالاً بعد حالْ

فتنغصُ النعمانُ ، وترك الخمر ، وبقي متكدِّراً حتى مات .

وهذا شاهُ إيران الذي احتفل بمرورِ ألفينِ وخمسمائةِ سنةٍ على قيام الدولةِ الفارسيِّةِ ، وكان يُخطِّطُ لتوسيعِ نفوذِه ، وبسْطِ ملكهِ على بقعةٍ أكبر منْ بلدِهِ ، ثم يُسلب سلطانُه بين عشيَّةٍ وضحاها ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء .

ويطرُدُ منْ قصورِهِ ودُورِهِ ودنياه طرداً ، ويموتُ مشرَّداً بعيداً محرُوماً مفلساً ، لا يبكي عليه أحدٌ : ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ{26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ .

وكذلك شاوشيسكو رئيسُ رومانيا ، الذي حكم اثنتين وعشرين سنة ، وكان حَرَسُه الخاصُّ سبعين ألفاً ، ثمَّ يحيطُ شعبُه بقصرِهِ ، فيمزِّقونهُ وجنودهُ إرباً إرباً ﴿ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ . لقدْ ذهب ، فلا دنيا ولا آخرة .

وذاك رئيسُ الفلبينِ ماركوس : جمع الرئاسة والمال ، ولكنَّه أذاق أمَّته أصناف الذُّلّ ، وأسقاها كأس الهوانِ ، فأذاقه اللهُ غُصص التعاسةِ والشقاءِ ، فإذا هو مشرَّدٌ منْ بلادِهِ ومنْ أهلِه وسلطانِه ، لا يملكُ مأوى يأوي إليه ، ويموتُ شقيّاً ، يرفضُ شعبُهُ أن يُدفَنَ في بلدِهِ : ﴿ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، ﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ، ﴿ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ .

*********************************************

اكتسابُ الفضائل أكاليلٌ على هامِ الحياةِ السعيدةِ

مطلوبٌ من العبدِ لكيْ يكسب السعادة والأمن والراحة ، أن يُبادر إلى الفضائل ، وأنْ يُسارع إلى الصفاتِ الحميدةِ والأفعالِ الجميلةِ (( احرصْ على ما ينفعُك واستعِنْ باللهِ )) .

أحدُ الصحابةِ يسألُ الرسول r مرافقَتَهُ في الجنةِ فيقول : (( أعِنِّي على نفسِك بكثْرةِ السجودِ ، فإنَّك لا تسجُدُ للهِ سجدةً ، إلاَّ رَفَعَك بها درجة )) . والآخرُ يسألُ عنْ بابٍ جامعٍ من الخيرِ ، فيقولُ له : (( لا يزالُ لسانُك رطباُ من ذكر اللهِ )) . وثالثٌ يسألُ فيقولُ له : (( لا تسُبَّنَّ أحداً ، ولا تضرِبنَّ بيدِك أحداً ، وإنْ أحدٌ سبَّك بما يعلمُ فيك فلا تسُبَّنَّه بما تعلمُ فيه ، ولا تحقِرنَّ من المعروفِ شيئاً ، ولو أنْ تُفْرِغ منْ دَلْوِك في إناءِ المستقي )) .

إنَّ الأمر يقتضي المبادَرَةَ والمُسارعة : (( بادرِوا بالأعمالِ فتناً )) ، (( اغتنِمْ خمساً قبل خمسٍ )) ، ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ، ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ .

لا تُهمِلْ في فِعْلِ الخَيْرِ ، ولا تنتظرْ في عملِ البِرِّ ، ولا تُسوِّفْ في طَلَبِ الفضائلِ :

دقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له

إنَّ الحياة دقائقٌ وثوانِ

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ .

عمرُ بنُ الخطابِ بعد أنْ طُعِن وثَجَّ دمُه ، يرى شابّاً يجرُّ إزاره ، فقال له عمرُ : (( يا ابن أخي ، ارْفَعْ إزارك ، فإنهُ أتقى لربِّك ، وأنْقى لثوبك )) . وهذا أمرٌ بالمعروفِ في سكراتِ الموتِ ﴿ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ .

إنَّ السعادة لا تحصلُ بالنومِ الطويلِ ، والخلودِ إلى الدَّعةِ ، وهَجْرِ المعالي ، واطِّراحِ الفضائلِ . ﴿ وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ .

إنَّ منطق أصحابِ الهممِ الدَّنيَّةِ والنفوسِ الهابطةِ يقولُ : ﴿ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ ﴾ ، ﴿ لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ .

وقد نهي العبدُ بالوحي عن التَّأخرِ عنْ فِعلِ الخيرِ : ﴿ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ، ﴿ وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ، ﴿ وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ، ﴿ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ ، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ، ﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ، ﴿وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى ، (( اللَّهمَّ إني أعوذُ بك من الكسلِ )) ، (( والكيُسُ منْ دان نفْسه وعمِل لما بعد الموتِ ، والعاجزُ منْ أتْبَعَ نَفْسَه هواها ، وتمنَّى على اللهِ الأماني )) .

No comments:

Post a Comment