براهينُ تدعوك للتفاؤلِ
في كتابِ « حُسْنِ الظَّنّ باللهِ » لابن أبي الدنيا ، واحدٌ وخمسون ومائة نصٍّ ، ما بين آيةٍ وحديث ، كلُّها تدعوك إلى التفاؤلِ ، وترْكِ اليأسِ والقنوطِ ، والمُثابرَة على حُسْنِ الظَّنِّ وحُسْنِ العَمَلِ ، حتى إنك لتجدُ نصوصَ الوعدِ أعْظَمَ منْ نصوصِ الوعيدِ ، وأدلَّةَ التهديدِ ، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيءٍ قدراً .
***************************************
حياةٌ كلُّها تعبٌ
لا تحزنْ منْ كدرِ الحياةِ ، فإنها هكذا خُلقتْ .
إنَّ الأصل في هذه الحياة المتاعبُ والضَّنى ، والسرورُ فيها أمرٌ طارئٌ ، والفرحُ فيها شيءٌ نادرٌ . تحلو لهذه الدارِ واللهُ لم يرْضها لأوليائِه مستقرَّا ؟!
ولولا أنَّ الدنيا دارُ ابتلاءٍ ، لم تكُنْ فيها الأمراضُ والأكدارُ ، ولم يضِقِ العيشُ فيها على الأنبياء والأخبار ، فآدمُ يُعاني المِحن إلى أن خرج من الدنيا ، ونوحٌ كذَّبهُ قومُه واستهزؤُوا به ، ولإبراهيمُ يُكابِدُ النار وذَبْحَ الولد ، ويعقوبُ بكى حتى ذهب بصرُه ، وموسى يُقاسي ظُلم فرعون ، ويلقى من قومه المِحنَ ، وعيسى بنُ مريم عاش معدماً فقيراً ، ومحمدٌ r يُصابِرُ الفقْر ، وقتلِ عمِّهِ حمزة ، وهو منْ أحبِّ أقاربِه إليه ، ونفورِ قومِهِ منهُ . وغير هؤلاء من الأنبياءِ والأولياءِ مما يطُول ذِكْرُهُ . ولو خُلقتِ الدنيا لِلَّذَّةِ ، لم يكنْ للمؤمنِ حظٌّ منها . وقال النبي r : (( الدنيا سجنُ المؤمنِ ، وجنَّةُ الكافرِ )) . وفي الدنيا سُجِن الصّالحون، وابتُلي العلماءُ العاملون ، ونغِّص على كبارِ الأولياءِ . وكدّرتْ مشارِبُ الصادِقِين.
*******************************
وقفـــــة
عن زيدِ بنِ ثابتٍ – رضي اللهُ عنه – قال : سمعتُ رسول اللهِ r يقولُ : ((منْ كانتِ الدنيا همَّةُ ، فرَّق اللهُ عليهِ أمرهُ ، وجعل فقرهُ بين عينيْه ، ولم يأتِهِ منَ الدنيا إلا ما كُتب له. ومنْ كانتِ الآخرةُ نِيَّتهُ، جمع اللهُ له أمرهُ ، وجعل غناهُ في قلبِهِ ، وأتتْه الدنيا وهي راغمةٌ)).
وعنْ عبدِالله بن مسعودٍ – رضي اللهُ عنه – قال : سمعتُ نبيَّكم r يقولُ : (( منْ جعل الهموم هماً واحداً ، وهمَّ آخرته ، كَفَاهُ اللهُ همَّ دنياه ، ومنْ تشعبَّتْ به الهُمُومُ في أحوالِ الدُّنيا ، لم يُبالِ اللهُ في أيِّ أَوْدِيتِها هَلَكَ )) .
قال الكاتبُ المعروفُ بـ « الببْغاء » :
تنكَّبْ مذْهبَ الهمجِ |
| وعُذْ بالصبرِ تبْتَهِجِ |
فإنَّ مُظلمَ الأيَّا |
| م محجوجٌ بلا حُججِ |
تُسامحُنا بلا شُكرٍ |
| وتمْنَعُنا بلا حرجِ |
ولُطفُ الله في إتيا |
| نهِ فتْحٌ مِن اللّججِ |
فمِنْ ضِيقٍ إلى سعةٍ | | ومِنْ غمٍّ إلى فرجِ |
*****************************************
الوَسَطِيَّةُ نجاةٌ من الهلاك
تمامُ السعادة مبنيٌّ على ثلاثةِ أشياء :
1. اعتدالِ الغضبِ .
2. اعتدالِ الشهوةِ .
3. اعتدالِ العِلْمِ .
فيحتاجُ أن يكون أمرُها متوسِّطاً ، لئلاَّ تزيد قوةُ الشهوةِ ، فتُخرِجه إلى الرُّخصِ فيهلِك ، أو تزيدُ قوةُ الغضبِ ، فيخرُج إلى الجموحِ فيهلك . (( وخيرُ الأمورِ أوسطُها )) .
فإذا توسَّطتِ القُوَّتانِ بإشارة قوَّةِ العِلْمِ ، دلَّ على طريقِ الهدايةِ . وكذلك الغضبُ : إذا زاد ، سهُل عليهِ الضرْبُ والقتلُ ، وإذا نقص ، ذهبتِ الغيرةُ والحميَّةُ في الدينِ والدنيا ، وإذا توسَّط ، كان الصبرُ والشجاعةُ والحِكْمةُ . وكذلك الشهوةُ : إذا زادتْ ، كان الفِسْقُ والفجورُ ، وإنْ نقصتْ ، كان العَجْزُ والفتورُ ، وإن توسَّطتْ ، كانتِ العفةُ والقناعةُ وأمثالُ ذلك . وفي الحديثِ (( عليكم هدْياً قاصِداً )) ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾
*************************************
المرءُ بصِفاتِهِ الغالِبة
منْ سعادتِك أنْ تغْلِب صفاتُ الخيرِ فيك صفاتِ الذَّمِّ ، فيُساقُ إليك الثناءُ حتى على شيءٍ ليس فيك ، ولم يقْبَلِ الناسُ فيك ذمّا ولو كان صحيحاً ، لأنَّ الماء إذا بلغ قُلَّتين لم يحملِ الخبث . إنَّ الجبل لا يزيدُ فيه حجرٌ ولا ينقصهُ حَجَرٌ .
طالعتُ هجوماً مقذعاً في قيسِ بن عاصم حليمِ العربِ ، وفي البرامكةِ الكرماء ، وفي قُتيْبة بن مسلمٍ القائدِ الشهيرِ ، ووجدت أنَّ هذا الشتْم والهجْو ، لم يُحفظْ ولم يُنقلْ ولم يُصدِّقْه أحدٌ ، لأنه سقط في بحرِ المحاسنِ فغرق ، ووجدتُ على الضِّدِّ منْ ذلك مدْحاً وثناءً في الحجَّاج ، وفي أبي مسلمٍ الخراساني ، وفي الحاكم بأمر الله العُبيْدِي ، ولكنَّه لم يُحفظْ ولم يُنقلْ ولم يُصدِّقه أحدٌ ، لأنه ضاع في ركامِ زيفِهم وظلمِهم وتهوًّرِهم ، فسبحان العادلِ بين خلْقِهِ .
*****************************************
هكذا خُلِقت
في الحديث : (( كلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِق له )) . فلماذا تُعْسفُ المواهبُ ويُلْوى عنقُ الصِّفاتِ والقدراتِ لَيَّا ؟! إن الله إذا أراد شيئاً هيَّأ أسبابه ، وما هناك أتْعَسُ نفْساً وأنْكدُ خاطراً من الذي يريدُ أنْ يكون غَيْرَ نَفْسِه ، والذكيُّ الأريبُ هو الذي يدرسُ نفسهُ ، ويسدُّ الفراغ الذي وُضع له ، إن كان في السَّاقةِ كان في السَّاقةِ ، وإنْ كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ ، هذا سيبويه شيخُ النَّحْوِ ، تعلَّم الحديث فأعياهُ ، وتبلَّد حسُّهُ فيع ، فتعلَّم النحو ، فَمَهَرَ فيه وأتى بالعَجَب العُجاب . يقولُ أحدُ الحكماءِ : الذي يريدُ عملاً ليس منْ شأنِهِ ، كالذي يزرعُ النَّخْل في غوطةِ دمشق ، ويزرعُ الأتْرُجَّ في الحجازِ .
حسانُ بنُ ثابتٍ لا يُجيدُ الأذان ، لأنهُ ليس بلالاً ، وخالدُ بنُ الوليد لا يقسمُ المواريث ، لأنه ليس زيد بن ثابتٍ ، وعلماءُ التربيةِ يقولون : حدِّدْ موقِعَكَ .
*********************************
لابُدَّ للذَّكاء مِن زكاء
سمعتُ إذاعة لندن تُخبرُ عنْ محاولةِ اغتيالِ الكاتب نجيبِ محفوظٍ ، الحائزِ على جائزةِ نوبل في الأدبِ ، وعدتُ بذاكراتي إلى كتبٍ له كنتُ قرأتُها مْن قبْلُ ، وعجبتُ لهذا الذَّكيِّ ، كيف فاتهُ أنَّ الحقيقة أعظمُ من الخيالِ ، وأنَّ الخلود أجلُّ من الفناءِ ، وأن المبدأ الرَّبّانيَّ السَّماويَّ أسْمى من المبدأِ البشريِّ ﴿ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ﴾ . بمعنى أنهُ كتب مسرحياتٍ منْ نسْج خيالِهِ ، مُستخدمِاً قدراتِه القويَّة في التصويرِ والعرضِ والإثارةِ ، والنهايةُ أنها أخبارٌ لا صحَّة لها .
لقد استفدتُ من قراءةِ حياتِه مسألةً كبرى ، وهي أنَّ السعادة ليستْ سعاد الآخرين على حسابِ سعادتِك وراحتِك ، فليس بصحيحٍ أن يُسرَّ بك الناسُ وأنت في همٍّ وغمٍّ وحزنٍ ، إنَّ بعض الكُتاَّابِ يمدحُ بعض المُبدعِين ، ويصفُه بأنه يحترقُ ليُضيء للناس ، والمنهجُ السَّويُّ الثابتُ هو الذي يجعلُ المبدع يُضيءُ في نفْسِه ويضيءُ للناسِ ، ويعمرُ نفسه بالخيرِ والهدى والرُّشدِ ، ليعمر قلوب الناسِ بذلك .
وبعد هذا ، فماذا ينفعُ الإنسان لو حاز على مُلكِ كسرى وقلبُه بالباطلِ مكسورٌ ، وحصل على سلطانِ قيصر وأملُه عن الخيْرِ مقصورُ ؟! إنَّ الموهبةَ إذا لم تكنْ سبباً في النجاةِ ، فما نفعُها وما ثمرتُها ؟!
*****************************************
كُنْ جميلاً تَرَ الوجود جميلاً
إنَّ منْ تمامِ سعادتِنا أنْ نتمتَّع بمباهج الحياةِ في حدودِ منطقِ الشرعِ المقدّسِ ، فاللهُ أنبت حدائق ذات بهجةٍ ، لأنهُ جميلُ يحبُ الجمالَ ، ولتقرأُآياِ الوحدانية في هذا الصُّنع البهيج ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ .
فالرائحةُ الزَّكيةُ والمطعمُ الشهيُّ والمنظرُ البهيُّ ، تزيدُ الصَّدْرَ انشراحاً والرُّوح فرحاً ﴿كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ . وفي الحديث : (( حُبِّب إليَّ من دنياكمْ : الطَّيبُ ، والنساءُ ، وجُعِلتْ قُرَّةُ عيني في الصلاةِ )) .
إنَّ الزهدَ القاتِم والورع المُظلِم ، الذي دلف علينا منْ مناهج أرضيَّةٍ ، قدْ شوَّه مباهج الحياةِ عند كثيرٍ مِنَّا ، فعاشُوا حياتهم همَّا وغمَّا وجوعاً وسهراً وتبتُّلاً ، بقولُ رسولُنا r : (( لكنَّي أصومُ وأُفطرُ ، وأقومُ وأفترُ ، وأتزوَّجُ النساء ، وآكُلُ اللحم ، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني )) .
وإنْ تعجبْ ، فعجبٌ ما فعلهُ بعضُ الطوائفِ بأنفسهمْ ! فهذا لا يأكلُ الرّطب ، وذاك لا يضحكُ ، وآخرُ لا يشربُ الماء البارد ، وكأنهم ما علمُوا أنَّ هذا تعذيبٌ للنفسِ وطمْسٌ لإشراقها ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ .
إنَّ رسولنا r أكل العسل وهو أزْهدُ الناسِ في الدنيا ، واللهُ خلق العسل ليُؤكل : ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ﴾ . وتزوَّج الثَّيِّباتِ والأبكار : ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ . ولبِس أجمل الثيابِ في مناسباتِ الأعيادِ وغيرِها : ﴿ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ . فهو r يجمعُ بين حقِّ الرُّوحِ وحقِّ الجسدِ ، وسعادةِ الدنيا والآخرةِ ، لأنه بُعث بدينِ الفطرةِ التي فطرَ اللهُ الناس عليها .
**************************************
أبشِرْ بالفَرَج القريبِ
يقولُ بعضُ مؤلِّفي عصرنا : إنَّ الشدائد – مهما تعاظمتْ وامتدَّتْ . لا تدومُ على أصحابِها ، ولا تخلَّدُ على مصابِها ، بل إنها أقوى ما تكونُ اشتداداً وامتداداً واسوداداً ، أقربُ ما تكونُ انقشاعاً وانفراجاً وانبلاجاً ، عن يُسْرٍ وملاءةٍ، وفرجٍ وهناءةٍ ، وحياةٍ رخيَّةٍ مشرقةٍ وضَّاءةٍ ، فيأتي العونُ من اللهِ والإحسانُ عند ذروةِ الشِّدَّةِ والامتحانِ ، وهكذا نهايةُ كلِّ ليلٍ غاسِق ، فجرٌ صادِقٌ .
فما هي إلا ساعةٌ ثُمَّ تنْقضي | | ويَحْمَدُ غِبَّ السَّيْرِ منْ هو سائرُ |
***********************************
أنتَ أرْفَعُ مِنَ الأحقاد
أسعدُ الناس حالاً وأشرحُهم صدْراً ، هو الذي يريدُ الآخرة ، فلا يحسُدُ الناس على ما آتاهم اللهُ منْ فضْلِهِ ، وإنما عنده رسالةٌ من الخيرِ ومُثُلٌ ساميةٌ من البِرِّ والإحسانِ ، يريدُ إيصال نفْعِه إلى الناسِ ، فإنْ لم يستطعْ ، كفَّ عنهم أذاه . وانظرْ إلى ابنِ عباسٍ بحْرِ العلمِ وترْجُمانِ القرآنِ ، كيف استطاع بخُلُقه الجمِّ وسخاوةِ نفسِه مساراتِه الشرعّةِ ، أنْ يحوِّل أعداءهُ منْ بني أُميَّةَ وبني مروان ومنْ شايعهم إلى أصدقاء ، فانتفع الناسُ بعلْمِه وفهْمه ، فملأ المجامع فِقهاً وذكراً وتفسيراً وخيْراً . لقد نسي ابنُ عباسٍ أيام الجمَلِ وصِفِّين ، وما قبلها وما بعدها ، وانطلق يبني ويُصلحُ ، ويرتُقُ الفتْقَ ، ويسمحُ الجراح ، فأحبَّهُ الجميعُ ، وأصبح – بحقٍّ حبْرَ الأمةِ المحمديةِ . وهذا ابنُ الزبيرِ – رضي اللهُ عنه - ، وهو منْ هو في كرمِ أصلِهِ وشهامِته وعبادتِه وسموِّ قدرِه ، فضَّل المُوجَهةَ مجتهداً في ذلك ، فكان من النتائجِ أن شُغِلَ عن الرِّوايةِ ، وخسِر جمْعاً كثيراً من المسلمين ، ثمَّ حصلتِ الواقعةُ فضُرِبتِ الكعبةُ لأجل مُجاوَرَتِه في الحرمِ ، وذُبِح كثيرُ من الناسِ ، وقُتِل هو ثمَّ صُلِب ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ . وليس هذا تنقُّصاً للقومِ ، ولا تطاوُلاً على مكانتِهم ، وإنما هي دراسةٌ تاريخيَّة تجمعُ العِبَرَ والعِظاتِ . إنَّ الرِّفق واللِّين والصَّفح والعفْو ، صفاتٌ لا يجمعُها إلاَّ القِلَّةُ القليلةُ من البشرِ ، لأنها تُكلِّفُ الإنسان هضْم نفْسِه ، وكبْح طموحِه ، وإلجام اندفاعِه وتطلّعِه .
***********************************
وقفــــة
« قولهُ r : (( تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ ، يعرفك في الشِّدَّة )) يعنى أنَّ العبد إذا اتَّقى الله وحفظ حدودهُ ، وراعى حقوقهُ في حالِ رخائِه ، فقد تعرَّف بذلك إلى اللهِ ، وصار بينه وبين ربِّه معرفةٌ خاصَّةٌ ، فمعرفهُ ربُّه في الشِّدَّةِ ورعى له تعرُّفهُ إليه في الرخاءِ ، فنجَّاهُ من الشدائدِ بهذِه المعرفة ، وهذه معرِفة خاصَّةٌ ، تقتضي قُرب العبدِ من ربِّهْ ومحبَّته له وإجابتهُ لدعائِه » .
« الصبرُ إذا قام به العبد كما ينبغي ، انقلبتْ المِحنةُ في حقِّه مِنْحةً ، واستحالتِ البليَّة عطيَّة ، وصار المكروهُ محبوباً ، فإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يبْتلِهِ عطيَّة ، وصار المكروهُ محبوباً ، فإنَّ الله تعالى على العبدِ عبوديَّةً في الضَّراءِ ، كما له عبوديَّةٌ في السَّرَّاءِ ، وله عبوديَّةٌ عليه فيما يحبُّونه ، والشأنُ في إعطاءِ العبوديَّةِ في المكارِهِ ، ففيه تفاوتُ مراتبِ العبادِ ، وبحسبِه كانتْ منازلُهم عند اللهِ تعالى » .
******************************************
العِلْمُ مِفتاحُ اليُسْرِ
العِلْمُ واليُسْرُ قرينان وأخوانِ شقيقانِ، ولك أنْ تنظر في بحورِ الشريعةِ من العلماءِ الراسخين ، ما أيْسرَ حياتهُم ، وما أسْهل التَّعامُل معهم! إنهم فهموا المقصد ، ووقعُوا على المطلوب ، وغاصُوا في الأعماقِ ، بينما تجدُ مِنْ أعْسرِ الناسِ ، وأصعبِهم مراساً ، وأشقِّهم طريقةً الزُّهَّادُ الذين قلَّ نصيبُهم من العِلْمِ ، لأنهم سمعُوا جُملاً ما فهموها ، ومسائل ما عَرَفُوها ، وما كانتْ مصيبةُ الخوارج إلاَّ منْ قلَّةِ علْمِهِمْ وضحالةِ فهْمِهم ؛ لأنهمْ لم يقعُوا على الحقائقِ، ولم يهتدُوا إلى المقاصدِ ، فحافظُوا على النُّتفِ، وضيَّعُوا المطالب العالية، ووقعُوا في أمرٍ مريجٍ .
*************************************
ما هكذا تُوردُ الإِبِل
طالعتُ كتابينِ شهيرينِ ، لا أرى إلاَّ أنَّ فيهما سطوةً عارمةً على السعادةِ واليُسْرِ اللذيْنِ أتى بهما الشارعُ الحكيمُ .
فكتابُ « إحياء عِلوم الدينِ » للغزاليِّ ، دعوةٌ صارخةٌ للتجويعِ والعُرْيش ( والبهذلة) ، والآصالِ والأغلالِ التيِ أتى رسولُنا r لوضْعِها عنِ العالمين . فهو يجمعُ من الأحاديثِ ، المتردِّية والنطِيحة وما أكل السَّبُعُ ، وغالبُها ضعيفةٌ أو موضوعةٌ ، ثم يبني عليها أُصُولاً يظنُّها منْ أعظمِ ما يُوصِّلُ العبدُ إلى ربِّه .
وقارنتُ بين إحياءِ علومِ الدين وبينِ الصحيحين للبخاري ومسلم ، فبان البونُ وظهر الفرْقُ ، فذاك عَنَتٌ ومشقَّةٌ وتكلُّفٌ ، وهذه يُسْرُ وسماحةٌ وسهولةٌ ، فأدركتُ قول البري : ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾ .
والكتابُ الثاني : « قُوتُ القلوبِ » لأبي طالب المكَّيَّ ، وهو طلبٌ مُلِحٌّ منه لترْكِ الحياة الدنيا والانزواء عنها ، وتعطيل السَّعْيِ والكسْبِ ، وهجْرِ الطَّيَّباتِ ، والتَّسابُقِ في طرقِ الضَنْكِ والضَّنى والشِّدَّة .
والمؤلِّفان : أبو حامدٍ الغزاليُّ ، وأبو طالبٍ المكيُّ ، أرادا الخَبْرَ ، لكنْ كانت بضاعتُهما في السُّنّةِ والحديثِ مُزْجاةً ، فمنْ هنا وقع الخَلَلُ ، ولابُدَّ للدليل أن يكون ماهراً في الطريق خِرِّيتاً في معرفة المسالكِ ﴿ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ .
*****************************************
أشْرَحُ الناسِ صدراً
الصّفةُ البارزةُ في مُعَلِّمِ الخيرِ r : انشراحُ الصدرِ والرِّضا والتَّفاؤلُ ، فهو مبشِّرٌ ، ينهى عن المشقَّةِ والتنفير، ولا يعرفُ اليأس والإحباط ، فالبسمةُ على مُحيَّاه ، والرِّضا في خلدِه ، واليُسْرُ في شريعتِه ، والوسطيَّةُ في سُنَّتِه ، والسعادةُ في مِلَّته . إنَّ جُلَّ مهمَّتِهِ أن يضع عنهم إصْرهم والأغلال التي كانتْ عليهم .
*************************************
رويداً .. رويداً
إنّ من إضفاء السعادة على المُخاطبين بكلمة الوعي ، التَّدرُّجُ في المسائلِ ، الأهمُّ ، يصدِّقُ هذا وصيتُه r لمعاذٍ – رضي اللهُ عنه – لمَّا أرْسَلَه إلى اليمنِ : (( فليكُنْ أوَّل ما تدعوهمْ إليه ، أنْ لا إله إلا الله وأني رسولُ اللهِ ..... )) الحديث . إذن في المسألة أولٌ وثانٍ وثالثٌ ، فلماذا نُقحمُ المسائل على المسائل إقحاماً ، ولماذا نطرحُها جملةً واحدةً ؟! ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ .
إنَّ من سعادةِ المسلمين بإسلامِهم أنْ يشعُروا بالارتياح منْ تعاليمِه وباليُسر في تلقِّي أوامره ونواهيه ؛ لأنه أتى أصلاً لإنقاذهم من الاضطرابِ النفسيِّ والتَّشرُّردِ الذِّهنيِّ والتَّفلُّتِ الاجتماعي .
« التكليفُ لم يأتِ في الشرعِ إلا منفيّاً ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ، لأنَّ التكليف مشقَّةٌ ، والدينُ لم يأتِ بالمشقَّةِ ، وإنما أتي لإزالتِها » .
إنَّ الصحابيَّ كان يطلبُ من الرسولِ r وصيتهُ ، فيُخبرُه بحديثٍ مختَصَرٍ الحاضرُ والبادي ، فإذا الواقعيةُ ومراعاةُ الحالِ واليُسْرُ هي السمةُ البارزةُ في تلك النصائحِ الغاليةِ .
إننا نخطئُ يوم نسْرُدُ على المستمعين كلَّ ما في جعْبتِنا منْ وصايا ونصائح ، وتعاليم وسُننٍ وآداب، في مقامٍ واحدٍ ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾ .
أوْرَدَها سعْدٌ وسعدٌ مُشْتمِلْ | | ما هكذا تُوردُ يا سعْدُ الإبِلْ |
**********************************************
كيف تشكُرُ على الكثيرِ
وقد قصَّرت في شُكْرِ القليلِ
إنَّ منْ لا يحمدُ الله على الماءِ الباردِ العذْبِ الزُّلالِ ، لا يحمدُه على القصورِ الفخمةِ ، والمراكبِ الفارِهةِ ، والبساتينِ الغنَّاءِ .
وإنّ منْ لا يشكُرُ الله على الخبزِ الدافئِ ، لا يشكرهُ على الموائدِ الشَّهيَّةِ والوجباتِ اللَّذيذةِ ، لأنَّ الكنُود الجحُود يرى القليل والكثير سواءً ، وكثيرٌ منْ هؤلاء أعطى ربَّه المواثيق الصارمة ، على أنه متى أنعم عليه وحباهُ وأغدق عليه فسوف يشكُرُ ويُنفقُ ويتصدَّقُ ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ{75} فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ .
ونحنُ نلاحظُ كلَّ يومٍ منْ هذا الصِّفِ بشراً كثيراً ، كاسف البالِ مكدَّر الخاطرِ ، خاوي الضميرِ ، ناقماً على ربِّه أنه ما أجْزل له العطيَّة ، ولا أتحفهُ برزقٍ واسعٍ بينما هو يرفُلُ في صحَّةٍ وعافيةٍ وكفافٍ ، ولم يشكُرْ وهو في فراغٍ وفسحةٍ ، فكيف لو شُغِل مثل هذا الجاحدُ بالكنوزِ والدُّورِ والقصورِ ؟! إذنْ كان أكْثرَ شُرُداً من ربِّه ، وعقوقاً لمولاهُ وسيِّدهِ .
الحافي منّا يقول : سوف أشكرُ ربِّي إذا مَنحَني حذاءً . وصاحبُ الحذاءِ يؤجِّل الشُّكْر حتى يحصُل على سيَّارةٍ فارهةٍ نأخُذ النعيمِ نقْداً ، ونُعطي الشُّكْر نسيئةًُ ، رغباتُنا على اللهِ ملحَّةٌ ، وأوامرُ اللهِ عندنا بطيئةُ الامتثالِ .
***********************************
ثلاثُ لوحاتٍ
بعضُ الأذكياء علَّق على مكتبِهِ ثلاث لوحاتٍ ثمينةٍ :
مكتوبٌ على الأولى : يوْمُك يومُك . أي عِشْ في حدودِ اليوم .
وعلى الثانيةِ : فكِّرْ واشكرْ . أي فكِّرْ في نِعَمِ اللهِ عليك ، واشكُرْه عليها .
وعلى الثالثةِ : لا تغضبْ .
إنها ثلاثُ وصايا تدلُّك على السعادةِ منْ أقْربِ الطرقِ ، ومن أيْسرِ السُّبُلِ ، ولك أن تكتبها في مُفكِّرتِك لتطالِعها كلَّ يومٍ .
***********************************
وقفــــة
« منْ لطائفِ أسرارِ اقترانِ الفرج بالكرْب ، واليُسْرِ ، أنَّ الكرب إذا اشتدَّ وعظُم وتناهى ، وحصل للعبد اليأسُ من كشْفِه من جهةِ المخلوقين تعلَّق باللهِ وحده ، وهذا هو حقيقةُ التَّوكُّلِ على اللهِ .
وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا استبطأ الفرج ، وأيِس منه كثْرةِ دعائِه وتضرُّعِه ، ولم يظهر عليه أثرُ الإجابةِ ، فرجع إلى نفسِه باللاَّئمةِ ، وقال لها : إنما أُتيتُ منْ قِبلِكِ ، ولو كان فيك خيرٌ لأُجبْتُ . وهذا اللومُ أحبُّ إلى الله منْ كثيرٍ من الطاعاتِ ، فإنه يُوجبُ انكسار العبدِ لمولاهُ ، واعترافُه له بأنه أهلٌ لما نزل من البلاءِ ، وأنه ليس أهلاً لإجابةِ الدعاءِ ، فلذلك تُسرعُ إليه حينئذٍ إجابةُ الدعاءِ وتفريجُ الكرْبِ » .
ويقولُ إبراهيمُ بنُ أدهم الزاهدُ . « نحن في عيشٍ لو علم به الملوكُ ، لجالدُونا عليه بالسيوفِ » .
ويقولُ ابنُ تيمية شيخُ الإسلامِ : « إنها لَتَمُرُّ بقلبي ساعاتٌ أقولُ : إن كان أهلُ الجنةِ في مِثْلِ ما أنا فيه ، فهم في عيشٍ طيِّبٍ » .
************************************
اطمئِنُّوا أيُّها الناسُ
في كتاب « الفَرَجِ بعد الشِّدَّةِ » أكْثر منْ ثلاثين كتاباً ، كلُّها تُخبرُنا أنَّ في ذروة المُدلهِمات انفراجاً ، وفي قمَّةِ الأزماتِ انبِلاجاً ، وأنَّ أكثر ما تكون مكبوتاً حزيناً غارقاً في النكْبةِ ، أقْرَبُ ما تكونُ إلى الفتْحِ والسُّهُولةِ والخروجِ منْ هذا الضَّنْكِ ، وساق لنا التَّنوخيُّ في كتابِه الطويل الشائقِ ، أكثَرَ منْ مائتي قصَّةٍ لمن نُكبُوا ، أو حُبسُوا أو عُزلُوا ، أو شُرِّدُوا وطُردُوا ، أو عُذِّبُوا وجُلدُوا ، أو افتقرُوا وأملقوا ، فما هي إلا أيام ، فإذا طلائع الإمداد وكتائب الإسعاد وافتْهم على حين يأس ، وباشرتْهم على حين غفلةٍ ، ساقها لهم السميع المجيب . إنَّ التنوخيَّ يقولُ للمصابين والمنكوبين : اطمئنُّوا ، فلقد سبقكُم فوقٌ في هذا الطَّريقِ وتقدَّمكم أُناسٌ :
صحِب الناسُ قبْلنا ذا الزَّمانا |
| وعناهُم مِنْ شأنِهِ ما عنانا |
رُبَّما تُحْسِنُ الصَّنِيع ليـ | | ـالِيه ولكنْ تُكدِّرُ الإحْسانا |
إذنْ فهذه سُنَّةٌ ماضية ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ ﴾ ، ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ . إنها قضيَّةٌ عادلةٌ أنْ يُمحِّص اللهُ عباده ، وأنُ يتعَّبدهم بالشّدَّةِ كما تعبَّدهُمْ بالرخاءِ ، وأنْ يُغايِر عليهم الأطوار كما غاير عليهم الليل والنهار ، فلِم إذن التَّسخُّطُ والاعتراضُ والتَّذمُّرُ ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾ .
*******************************************
صنائعُ المعروفِ تقي مصارع السُّوءِ
منْ أجملِ الكلماتِ ، قولُ أبي بكرٍ الصِّديق – رضي الله عنه - : صنائع المعروف تقي مصارع السوءِ . وهذا كلامٌ يُصدِّقه النَّقلُ والعقلُ : ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ{143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ . تقولُ خديجةُ للرسول r : (( كلا واللهِ لا يُخزيك اللهُ أبداً لتصِلُ الرَّحِم ، وتحمِلُ الكلَّ ، وتكسِبُ المعدوم ، وتُعينُ على نوائِبِ الدَّهْرِ )) . فانظُرْ كيف استدلَّتْ بمحاسنِ الأفعالِ على حُسْنِ العواقبِ ، وكَرَمِ البدايةِ على جلالِة النهايةِ .
وفي كتاب « الوزراء » للصابي ، و« المنتظم » لابنِ الجوزي ، و «الفَرَجِ بعد الشِّدَّةِ » للتنوخي قصَّةٌ ، مفادُها : أن ابن الفراتِ الوزير ، كان يتتبَّعُ أبا جعفرٍ بن بسطامٍ بالأذِيَّة ، ويقصدُه بالمكاره ، فلقي منه في ذلك شدائد كثيرةً ، وكانت أُمّ أبي جعفر قد عوَّدته – منذُ كان طفلاً – أنْ تجعل له في كلِّ ليلةٍ ، تحت مخدَّته التي ينامُ عليها رغيفاً من الخبزِ ، فإذا كان في غدٍ ، تصدَّقتْ به عنه . فلمَّا كان بعد مُدَّة من أذيَّةِ ابنِ الفراتِ له ، دخل إلى ابن الفراتِ في شيءٍ احتاج إلى ذلك فيه ، فقال له ابنُ الفراتِ : لك مع أُمِّك خُبْزٌ في رغيف ؟ قال : لا . فقال : لابُدَّ أن تصدُقني . فذكر أبو جعفر الحديث ، فحدَّثه به على سبيل التَّطايُبِ بذلك منْ أفعالِ النساءِ . فقال ابنُ الفراتِ : لا تفعلْ ، فإنّي بتُّ البارحة ، وأنا أُدبِّرُ عليك تدبيراً لو تمَّ لاستأصلْتُك ، فنمتُ ، فرأيتُ في منامي كأنَّ بيدي سيفاً مسلولاً ، وقد قصدتُك لأقتلك به ، فاعترضتْني أُمُّك بيدِها رغيفٌ تُترِّسُك به منّي ، فما وصلتُ إليك ، وانتبهتُ . فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما ، وجعل ذلك طريقاً إلى استصلاحِه ، وبذل لهُ منْ نفْسِه ما يريدُه منْ حُسْنِ الطاعةِ ، ولم يبرحْ حتى أرضاهُ ، وصارا صديقيْن . وقال له ابنُ الفراتِ : واللهِ ، لا رأيت منِّي بعدها سُوءاً أبداً .
***************************************
استجمامٌ يُعين علىُ مُواصلةِ السَّيْرِ
من المعلومِ أنَّ في الشريعةِ سَعَةً وفُسحةً ، تُعينُ العبد على الاستمرار في عبادتِه وعطائِه وعملِه الصالحِ ، فرسولُنا r كان يضحكُ ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ ، وكان يمزحُ ولا يقولُ إلا حقّاً ، وسابق عائشة رضي اللهُ عنها ، وكان يتخوَّلُ الصحابة بالموعظةِ ، كراهِية السَّآمِة عليهم ، وكان ينهى عن التَّعمُّق والتَّكلُّفِ والتشديدِ ، ويُخبرُ أنه لن يُشادّ الدِّين أحدٌ ، إلا غَلَبَهُ ، وفي الحديثِ أنَّ الدين متينٌ ، فأوغِلُوا فيه برفْقٍ . وفي الحديثِ أيضاً أنَّ لكل عابد شِرَّةً ، وهي الشّدَّةُ والضَّراوةُ والاندِفاعُ . ولا يلبثُ المتكلِّفُ إلا أنْ ينقطع ، لأنه نظر إلى الحالةِ الراهنةِ ونسي الطوارئ وطُول المُدَّة وملالة النَّفْس ، وإلاَّ فالعاقلُ له حدٌّ أدنى في العملِ يُداومُ عليه ، فإنْ نشط زاد ، وإنْ ضعف بقي على أصلِه ، وهذا معنى الأثر منْ كلامِ بعضِ الصحابة : إنَّ للنفوسِ إقبالاً وإدباراً ، فاغتنموها عند إقبالها ، وذرُوها عند إدبارِها .
وما رأيتُ نفراً زادُوا في الكْيلِ ، وأكثَرُوا من النوافل ، وحاولوا أنْ يُغالوا ، فانقطعُوا وعادُوا أضْعفَ ممَّا كانوا قبْلَ البدايةِ .
والدِّينُ أصلاً جاء للإسعاد ﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ . وقد لام اللهُ قوماً كلَّفُوا أنفُسهم فوق الطَّاقةِ ، ثم انسحبوا منْ أرضِ الواقع ناكثِين ما ألزمُوا أنفسهم به ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ .
وميزةُ الإسلامِ على سائر الأديانُ أنه دينُ فطرةٍ ، وأنه وَسَطٌ ، وأنه للرُّوحِ والجسمِ ، والدنيا والآخرةِ ، وأنه ميسرٌ ﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ .
عن أبي سعيد الخُدْريّ قال : جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ r فقال : يا رسول اللهِ ، أيُّ الناس خيْرٌ ؟ قال: ((مؤمِنٌ مجاهِدٌ بنفسِه ومالِه في سبيلِ اللهِ، ثم رجُلٌ معتزلٌ في شِعْبٍ من الشِّعابِ يعبُد ربَّه )) . وفي روايةٍ : (( يتَّقي الله ويدع الناس من شرِّه )) ، وعنْ أبي سعيدٍ قال : سمعتُ النبي r يقولُ : (( يُوشكُ أنْ يكون خير مالِ المسلم غنمٌ يتبعُ بها شعْفَ الجبالِ ومواقع القطْرِ ، يفرُّ بدينِه من الفِتنِ )) . رواه البخاريُّ .
قال عمرُ : « خُذُوا حظَّكم من العُزلةِ » . وما أحْسنَ قول الجنيدِ : « مُكابدَةُ العزلةِ أيسرُ مْن مداراةِ الخلطةِ » . وقال الخطَّابيُّ : لو لم يكُنْ في العزلةِ إلا السلامةُ من الغيبةِ ، ومنْ رؤيةِ المنكرِ الذي لا يقدرُ على إزالتهِ ، لكان ذلك خيراً كثيراً .
وفي هذا معنى ما أخرجهُ الحاكمُ ، منْ حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً ، بلفظ : (( الوحدُة خيرٌ من جلِيسِ السُّوء )) . وسنده حَسَنٌ .
وذَكَر الخطَّابيُّ في « كتاب العزلة » أنَّ العزلة والاختلاط يختلفُ باختلافِ متعلقاتهما ، فتُحمل الأدلَّةُ الوارِدةُ في الحضِّ على الاجتماعِ ، على ما يتعلَّقُ بطاعةِ الأئمةِ وأمورِ الدينِ ، وعكسُها في عكسِهِ ، وأما الاجتماعُ والافتراقُ بالأبدانِ ، فمنْ عَرَفَ الاكتفاء بنفسِه في حقِّ معاشِهِ ومحافظةِ دينهِ ، فالأوْلى لهُ الانكفافُ منْ مخالطةِ الناسِ ، بشرْطِ أنْ يُحافظَ على الجماعِة ، والسَّلامِ والرَّدِّ ، وحقوقِ المسلمين من العيادةِ وشهودِ الجنازةِ ، ونحْوِ ذلك . والمطلوبُ إنما هو ترْكُ فضولِ الصُّحبةِ ، لما في ذلك منْ شغِلِ البالِ وتضييعِ الوقتِ عن المُهمَّاتِ ، ويجعلُ الاجتماع بمنزلةِ الاحتياجِ إلى الغداءِ والعشاءِ ، فيقتصرُ منه على ما لابدَّ له منه ، فهو أرْوَحُ للبَدَنِ والقلبِ . واللهُ أعلمُ .
وقال القُشيريُّ في « الرسالة» : طريقُ من آثرَ العُزلةَ ، أن يعتقد سلامة الناسِ منْ شرِّه ، لا العكسُ ، فإنَّ الأول : يُنتجهُ استصغارُه نفْسه ، وهي صفةُ المتواضعِ ، والثاني : شهودُه مزيةً له على غيرِه ، وهذه صفةُ المتكبِّرِ .
والناسُ في مسألةِ العُزلةِ والخلطةِ طرفانِ ووسطٌ .
فالطرف الأوَّلُ : من اعتزل الناس حتى عن الجُمعِ والجماعاتِ والأعيادِ ومجامع الخيْرِ ، وهؤلاءِ أخطؤُوا .
والطرف الثاني : منْ خالط الناس حتى في مجالسِ اللَّهوِ واللَّغوِ والقيلِ والقالِ وتضييعِ الزَّمانِ ، وهؤلاء أخطؤُوا .
والوسط : منْ خالط الناس في العباداتِ التي لا تقوُم إلا باجتماعٍ ، وشاركهم في ما فيه تعاونٌ على البِرِّ والتقوى وأجرٌ ومثوبةُ ، واعتزال مناسباتِ الصَّدِّ والإعراضِ عن اللهِ وفضولِ المباحاتِ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ .
************************************************
وقفـــــة
عن عُباد بنِ الصامتِ قال : قال رسولُ اللهِ r : (( عليكمْ بالجهاد في سبيلِ اللهِ ، فإنه بابٌ من أبوابِ الجنةِ ، يُذهِبُ اللهُ به الغمَّ والهمَّ )) .
« وأمَّا تأثيرُ الجهاد في دفْع الهمِّ والغمِّ ، فأمرٌ معلومٌ بالوجدان ، فإنَّ النَّفْس متى تركتْ صائل الباطلِ وصولتهُ واستيلاءهُ ، اشتدَّ همُّها وغمُّها ، وكربُها وخوفُها ، فإذا جاهدتْه للهِ ، أبدل اللهُ ذلك الهمَّ والحُزْن فرحاً ونشاطاً وقوةً ، كما قال تعالى : ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ{14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ . فلا شيء أذْهبُ لجَوَى القلبِ وغمِّه وحزنِه من الجهادِ ، واللهُ المستعانُ » .
قال الشاعرُ :
وإني لأُغضي مقلتيَّ على القذى |
| وألْبَسُ ثوب الصبرِ أبيض أبْلجا |
وإني لأدعو الله والأمرُ ضيِّقٌ |
| عليَّ فما ينفكُّ أن يَتَفَرَّجَا |
وكم من فتى سُدَّتْ عليه وجوهُهُ | | أصاب لها في دعوةِ اللهِ مَخْرَجا |
*************************************
مَسارِحُ النَّظر في الملكوت
منْ طُرُقِ الارتياحِ وبسْطِة الخاطرِ ، التَّطلُّعُ إلى آثارِ القُدرةِ في بديعِ السماواتِ والأرضِ ، فتستلذّ بالبهجة العامرةِ في خلقِ الباري – جلَّ في عُلاهُ – في الزهرة ، في الشجرةِ ، في الجدولِ ، في الخميلةِ ، في التلِّ والجبل ، في الأرضِ والسماءِ ، في الليلِ والنهارِ ، في الشمسِ والقمرِ ، فتجدُ المتعة والأُنس ، وتزدادُ إيماناً وتسليماً وانقياداً لهذا الخالقِ العظيمِ ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ .
يقول أحدُ الفلاسفةِ ممنْ أسلموا : كنتُ إذا شككْتُ في القُدرةِ ، نظرتُ إلى كتابِ الكونِ ، لأُطالع فيه أحْرُفَ الإعجازِ والإبداعِ ، فأزدادُ إيماناً .
*********************************
خُطوات مدروسة
يقولُ الشوكانيُّ : أوصاني بعضُ العلماءِ فقال : لا تنقطعِ عن التأليف ولو أنْ تكتُب في اليومِ سطرين . قال : فأخذتُ بوصيَّتِه ، فوجدتُ ثمرتها .
وهذا معنى الحديث : (( خيرُ العملِ ما داوم عليه صاحبُه وإنْ قلَّ )) وقال : القطرةُ مع القطرةِ تجتمعُ سيلاً عظيماً .
أما تَرَى الحبلَ بطُولِ المدى | | على صليبِ الصَّخْر قدْ أثَّرا |
وإنما يأتينا الاضطرابُ منْ أننا نريدُ أن نفعل كلَّ شيءٍ مرَّةً واحدةً ، فنَمَلُّ ونتعبُ ونترُكُ العمل ، ولو أننا أخذْنا عَمَلنا شيئاً فشيئاً ، ووزَّعْناه على مراحل ، لقطعْنا المراحل في هدوءٍ ، واعتبِرْ بالصلاةِ ، فإنَّ الشَّرْع جَعَلَها في خمسةِ أوقاتٍ متفرِّقةٍ ، ليكون العبدُ في استجمامٍ وراحةٍ ، ويأتي لها بالأشواق ، ولو جُمعتْ في وقتٍ ، لملَّ العبد، وفي الحديثِ : ((إن المُنْبتَّ لا ظهْراً أبْقى ولا أرضاً قطع )) . ووُجِد بالتَّربةِ ، أنَّ منْ يأخذُ العَمَلَ على فتراتٍ ، يُنجزُ ما لم يُنجزْهُ منْ أخذهُ دفعةً واحدةً ، مع بقاءِ جذوةِ الرُّوحِ وتوقُّدِ العاطفةِ .
ومما استفدتُه عنْ بعض العلماءِ ، أنَّ الصلوات ترتِّبُ الأوقاتِ ، أخذاً منْ قولِ الباري : ﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾ . فلو أنَّ العبد وزَّع أعمالهُ الدينية والدُّنيوية بعد كلِّ صلاةٍ ، لوجد سعةً في الوقت ، وفسحةً في الزمنِ .
وأنا أضربُ لك مَثَلاَ: فلو أن طالب العِلْم، جعل ما بعد الفجرِ للحفْظِ في أيّ فنٍّ شاء، وجعل بعد الظُّهر للقراءةِ السهْلةِ في المجامع العامَّة ، وجعل بعد العصر للبحثِ العلميِّ الدقيقِ ، وما بعد المغربِ للزِّيارةِ والأُنسِ ، وما بعد العشاءِ لقراءة الكُتُبِ العصريَّةِ والبحوثِ والدوريَّاتِ والجلوس مع الأهل ، لكان هذا حسناً ، والعاقِل له مِنْ بصيرتِه مَدَدٌ ونورٌ . ﴿ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ﴾ .
*******************************************
بلا فوضويَّة
مما يُكدِّرُ ويُشتِّتُ الذِّهن ، الفوضويَّةُ الفكريَّةُ التي يعيشُها بعضُ الناسِ ، فهو لم يحدِّد قُدراتِه ، ولم يقصدْ إلى ما يجمعُ شمل فكْرهِ ونظرِه ؛ لأن المعرفة شعوبٌ ودروبٌ ، ولابُدَّ منْ تحديدِ آيتِها ومعرفةِ مسالكها ، ويُجمعُ رأْيه على مشربٍ معروفٍ ، لأنّ التَّفرد مطلوبٌ .
وكذلك ممَّا يشتِّتُ الذهن ، ويُورِث الغمَّ ، الدَّيْنُ والتبِعاتُ الماليةُ والتكاليفُ المعيشيَّةُ . وهناك أصولٌ في هذه المسألةِ أريدُ ذِكرها :
أولها : ما غال منِ اقتصدُ : ومنْ أحْسَنَ الإنفاق ، وحفِظ مالهُ إلاَّ للحاجة ، واجتنب التبذير والإسراف ، وَجَدَ العون من اللهِ ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ ، ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ .
الثاني : كسْب المال من الوجوهِ المُباحةِ ، وهجْرُ كلِّ كسبٍ محرَّمٍ ، فإنَّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً ، واللهُ لا يُباركُ في المكسبِ الخبيثِ ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ .
الثالث : السَّعْيُ في طلبِ المالِ الحلالِ ، وجمْعُه منْ حلِّه ، وتركُ العطالةِ والبطالةِ ، واجتنابِ إزجاءِ الأوقاتِ في التفاهاتِ ، فهذا ابنُ عوف يقول : دُلُّوني على السوقِ : ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ .
******************************************
ثمنُك إيمانُك وخُلُقُك
مرَّ هذا الرجلُ الفقيرُ المعدومُ ، وعليهِ أسمالٌ باليةٌ وثيابٌ رثَّة ، جائع البطْن ، حافي القدمِ ، مغمور النَّسبِ ، لا جاهٌ ولا مالٌ ولا عشيرةٌ ، ليس له بيتٌ يأوي إليهِ ، ولا أثاث ولا متاع ، يشربُ من الحياضِ العامَّةِ بكفَّيْه مع الواردين ، وينامُ في المسجدِ ، مخدَّتُه ذراعُه ، وفراشُه البطحاءُ ، لكنَّه صاحبُ ذِكرٍ لربِّه وتلاوةٍ لكتابِ مولاهُ لا يغيبُ عنِ الصَّفِّ الأولِ في الصلاةِ والقتالِ ، مرَّ ذات يومٍ برسولِ اللهِ r فناداهُ باسمِهِ وصاح به : (( يا جُليْبيبُ ألا تتزوَّجُ ؟ )) . قال : يا رسول اللهِ ، ومنْ يُزوِّجُني ؟ ولا مالٌ ولا جاهٌ ؟ ثمَّ مرَّ به أخرى ، فقال له مثْل قولهِ الأولِ ، وأجاب بنفسِ الجواب، ومرَّ ثالثةً ، فأعاد عليه السؤال وأعاد هو الجواب ، فقال r : (( يا جليبيبُ ، انطلِقْ إلى بيتِ فلانٍ الأنصاريِّ وقُلْ له : رسولُ اللهِ r يقرئُك السلام ، ويطلبُ منك أن تُزوِّجني بِنْتك )) .
وهذا الأنصاريَّ منْ بيتٍ شريفٍ وأسرةٍ موقرةٍ ، فانطلق جليبيبٌ إلى هذا الأنصاريِّ وطرق عليه الباب وأخبره بما أمره به رسولُ اللهِ r فقال الأنصاريُّ : على رسول الله r السلامُ ، وكيف أُزوِّجك بنتي يا جليبيبُ ولا مالٌ ولا جاهٌ ؟ وتسمعُ زوجتُه الخَبَرَ فتعجبُ وتتساءلُ : جليبيبٌ ! لا مالٌ ولا جاهٌ ؟ فتسمُع البنتُ المؤمنةُ كلام جليبيبٍ ورسالة الرسولِ r فتقول لأبويها : أترُدَّانِ طلب رسولِ اللهِ r ، لا والذي نفسي بيدِهِ .
وحصل الزواج المبارك والذُّرِّيَّةُ المباركةُ والبيتُ العامرُ ، المؤسَّسُ على تقوى من اللهِ ورضوانٍ ، ونادى منادي الجهادِ ، وحضر جليبيبُ المعركة ، وقتل بيده سبعةً من الكفارِ ، ثم قُتل في سبيلِ اللهِ ، وتوسد الثرى راضياً عنْ ربِّه وعنْ رسولِه r وعنْ مبدئِه الذي مات منْ أجلِهِ ، ويتفقَّدُ الرسولُ r القتلى ، فيُخبرُه الناسُ بأسمائِهم ، وينسون جليبيباً في غمرةِ الحديث ، لأنهُ ليس لامعاً ولا مشهوراً ، ولكنّ الرسول r يذكُرُ جليبيباً ولا ينساهُ ، ويحفظُ اسمه في الزحامِ ولا يُغفله ، ويقولُ : (( لكنَّني أفقِدُ جليبيباً )) .
ويجده وقد تدثَّر بالتراب ، فينفضُ التراب عن وجهه ويقولُ له : (( قَتَلْتَ سبعة ثم قُتِلْت ؟ أنت مني وأنا منك ، أنت مني وأنا منك ، أنت مني وأنا منك )) . ويكفي هذا الوسام النبويُّ جليبيباً عطاءً ومكافأةً وجائزةً .
إنَّ ثمنَ جليبيبٍ ، إيمانُه وحبُّ رسولِ اللهِ r له ، ورسالتُه التي مات من أجلِها . إنَّ فقره وعدمَه وضآلةُ أسرتِه لم تُؤخِّرْه عنْ هذا الشرفِ العظيمِ والمكسب الضخمِ ، لقدْ حاز الشهادة والرِّضا والقبُول والسعادة في الدنيا والآخرة : ﴿ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ .
إنَّ قيمتك في معانيك الجليلةِ وصفاتِك النبيلةِ .
إنَّ سعادتك في معرفتِك للأشياءِ واهتماماتِك وسموِّك .
إنَّ الفقرَ والعوز والخمول، ما كان - يوماً من الأيامِ- عائقاً في طريق التَّفوُّقِ والوصولِ والاستعلاءِ . هنيئاً لمنْ عَرَفَ ثمنه فعلاً بنفسِه ، وهنيئاً لمنْ أسعد نفسهُ بتوجيههِ وجهادِه ونُبِله ، وهنيئاً لمنْ أحْسنَ مرَّتيْن ، وسعد في الحياتينِ ، وأفلح في الكرتيْنِ ، الدُّنيا والآخرةِ .
**********************************************
يا سعادة هؤلاء
أبو بكرٍ – رضي اللهُ عنهُ - : بآيةٍ : ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى{17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ .
عمرُ - رضي الله عنه - : بحديثِ : (( رأيتُ قصراً أبيض في الجنةِ ، قلتُ : لمن هذا القصرُ ؟ قيل لي : لعمر بنش الخطابِ )) .
وعثمانُ - رضي الله عنهُ - : بدعاءِ : (( اللهمَّ اغفْر لعثمان ما تقدَّم منْ ذنبِه وما تأخَّر )) .
وعليٌّ - رضي الله عنهُ - : (( رجُلٌ يحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه الله ُ ورسولُه )) .
وسعدُ بنُ معاذٍ - رضي الله عنهُ - : (( اهتزَّ له عرشُ الرحمنِ )) .
وعبدُاللهِ بن عمْرٍو الأنصاريُّ - رضي الله عنهُ -: ((كلَّمه اللهُ كِفاحاً بلا ترْجُمان )) .
وحنْظَلَةُ - رضي الله عنهُ - : (( غسَّلتْهُ ملائكةُ الرحمنِ )) .
****************************************
ويا شقاوة هؤلاء
فرعونُ : ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾ .
وقارونُ : ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾ .
والوليدُ بنُ المغيرة : ﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ .
وأُميَّةُ بنُ خلف : ﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ .
وأبو لهبٍ : ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ .
والعاص بنُ وائلٍ : ﴿ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ﴾ .
****************************************
وقفــــــة
« قلَّةُ التوفيقِ وفسادُ الرأي ، وخفاءُ الحقِّ وفسادُ القلب ، وخمولُ الذِّكْرِ ، وإضاعةُ الوقتِ ، ونَفْرَةُ الخلْق ، والوحْشةُ بين العبدِ وبين ربِّه ، ومنْعُ إجابةِ الدعاءِ ، وقسوةُ القلبِ ، ومحْقُ البركةِ في الرِّزقِ والعُمرِ ، وحرمانُ العلمِ ، ولباسُ الذُّلِّ ، وإهانةُ العدوِّ وضيقُ الصدرِ ، والابتلاءُ بقرناءِ السوءِ الذين يُفسدون القلب ويُضيِّعون الوقت ، وطولُ الهمِّ ، وضنْكُ المعيشةِ ، وكَسْفُ البالِ ... تتولَّد من المعصيةِ والغفلِة عن ذكرِ اللهِ ، كما يتولَّد الزرعُ عن الماءِ ، والإحراقُ عن النارِ . وأضدادُ هذه تتولَّدُ عن الطاعةِ » .
« أمَّا تأثيرُ الاستغفارِ في دفْع الهمِّ والغمِّ والضيقِ ، فمِمَّا اشترك في العلْمِ به أهلُ المللِ وعقلاءُ كلِّ أمَّة ، إنَّ المعاصي والفساد تُوجِب الهمَّ والغمَّ ، والخوف والحزن، وضِيق الصدر ، وأمراض القلب ، حتى إنّ أهلها ذا قضوا منها أوطارها ، وسئمتْها نفوسُهم ، ارتكبوها دفعاً لما يجدونهُ في صدورهِم من الضِّيقِ والهمِّ والغمِّ ، كما قال شيخُ الفسوقِ :
وكأسٍ شرِبْتُ على لذَّةٍ | | وأُخرى تداويْتُ مِنْها بها |
وإذا كان هذا تأثيرُ الذنوبِ والآثامِ في القلوبِ ، فلا دواء لها إلا التوبةُ والاستغفارُ» .
*************************************
رِقْقاً بالقوارير
﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ . ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ .
وفي الحديثِ : (( استوصُوا بالنساءِ خيراً ، فإنهنَّ عوانٍ عندكم)) .
وفي حديثِ آخر : (( خيرُكم خيركم لأهِلهِ ، وأنا خيرُكم لأهلي )) .
البيتُ السعيدُ هو العامرُ بالأُلفةِ ، القائمُ على الحبِّ المملوءُ تقوى ورضواناً : ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ .
No comments:
Post a Comment