بَسْمةٌ في البدايةِ
من حُسنِ الطالع وجميلِ المقابلةِ تبسُّم الزوجةِ لزوجِها والزوجُ لزوجتِه ، إن هذه البسمة إعلانٌ مبدئيٌّ للوفاقِ والمصالحةِ : (( وتبسُّمك في وجه أخيك صدقةٌ )) . وكان r ضحَّاكاً بسَّاماً .
وفي البدايةِ بالسلامِ : ﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ ، وردُّ التحيةِ من أحدِهما للآخرِ : ﴿ وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ .
قال كُثيِّر :
حيَّتْك عزّةُ بالتسليمِ وانصرفتْ |
| فحيِّها مثل ما حيَّتْك يا جملُ |
ليت التحية كانتْ لي فأشكرها | | مكان يا جملاً حُيِّيت يا رجلُ |
ومنها الدعاءُ عند دخول المنزلِ : (( اللهمَّ إني أسألُك خَيْرَ الموْلجِ وخير المخرجِ ، باسم اللهِ ولجْنا ، وباسمِ اللهِ خرجْنا ، وعلى اللهِ ربِّنا توكَّلنا )) .
ومن أسبابِ سعادةِ البيتِ : لِينُ الخطابِ من الطرفين : ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ .
وكلامُها السحرُ الحلالُ لو أنه |
| لم يجنِ قتل المسلمِ المتحرِّزِ |
إنْ طال لمْ يُمْلَلْ وإنْ هي أوجزتْ | | ودَّ المحدَّثُ أنها لم تُوجزِ |
يا ليت الرجل ويا ليت المرأة ، كلٌّ منهما يسحبُ كلام الإساءةِ وجرْح المشاعرِ والاستفزازِ ، يا ليت أنهما يذكرانِ الجانب الجميل المشرق في كلٍّ منهما ، ويغضَّانِ الطرْف عن الجانبِ الضعيفِ البشريِّ في كليهما .
إن الرجل إذا عدَّد محاسن امرأتِه ، وتجافى عن النقصِ ، سعِد وارتاح ، وفي الحديثِ : (( لا يفرُكُ مؤمنٌ مؤمنةً ، إن كره منها خلُقاً رضي منها آخر )) .
ومعنى لا يفرك : لا يبغضِ ولا يكره .
من ذا الذي ما ساء قطْ | | ومنْ له الحسنى فقطْ |
من الذي ما ما نبا سيفُ فضائلِه ولا كبا جوادُ محاسنِه : ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ .
أكثرُ مشاكلِ البيوتِ من معاناةِ التوافهِ ومعايشةِ صغارِ المسائلِ ، وقد عشتُ عشراتِ القضايا التي تنتهي بالفراقِ ، سببُ إيقادِ جذوتها أمورٌ هينةٌ سهلة ، أحدُ الأسبابِ أن البيت لم يكن مرتّباً ، والطعام لمِ يقدَّم في وقتِه ، وسببُه عند آخرين أن المرأة تريدُ من زوجها أن لا يُكثر من استقبالِ الضيوفِ ، وخذْ من هذه القائمة التي تُورثُ اليتُم والمآسي في البيوتِ .
إن علينا جميعاً أن نعترف بواقِعنا وحالِنا وضعفِنا ، ولا نعيشُ الخيال والمثالياتِ ، التي لا تحصلُ إلا لأولي العزمِ من أفرادِ العالمِ .
نحن بشرٌ نغضبُ ونحتدُّ ، ونضعفُ ونخطئُ ، وما معنا إلا البحثُ عن الأمرِ النسبيِّ في الموافقة الزوجيةِ حتى بعد هذه السنواتِ القصيرةِ بسلامِ .
إن أريحية أحمد بنِ حنبل وحُسْن صحبته تقدّم في هذه الكلمة ، إذ يقول بعد وفاة زوجتهِ أمِّ عبدِالله : لقد صاحبتُها أربعين سنةً ما اختلفتُ معها في كلمةٍ .
إن على الرجل أن يسكت إذا غضبتْ زوجتُه ، وعليها أن تسكتُ هي إذا غضب ، حتى تهدأ الثائرةُ ، وتبرد المشاعرُ ، وتسكن اضطراباتُ النفسِ .
قال ابنُ الجوزيِّ في « صيدِ الخاطرِ » : « متى رأيت صاحبك قد غَضِبَ وأخذ يتكلَّمُ بما لا يصلحُ ، فلا ينبغي أن تعقد على ما يقولُه خِنْصِرا ( أي لا تعتدَّ به ولا تلتفتْ إليه ) ، ولا أن تؤاخذه به ، فإن حاله حالُ السكرانِ لا يدري ما يجري ، بل اصبرْ ولو فترةً ، ولا تعوِّلْ عليها ، فإن الشيطان قد غلبه ، والطبعُ قد هاج ، والعقلُ قد استتر ، ومتى أخذت في نفسِك عليه ، أو أجبته بمقتضى فعْله ، كنت كعاقل واجه مجنوناً ، أو مفيقٍ عاتب مغمىً عليه ، فالذنبُ لك، بل انظرْ إليه بعينِ الرحمةِ ، وتلمَّحْ تصريف القدر له ، وتفرَّجْ في لعبِ الطبعِ به .
واعلم أنه إذا انتبه ندِم على ما جرى ، وعَرَفَ لك فضْل الصَّبْرِ ، وأقلُّ الأقسامِ أن تُسْلِمه فيما يفعلُ في غضبِه إلى ما يستريحُ به .
وهذه الحالةُ ينبغي أن يتلمَّحها الولدُ عند غضب الوالدِ ، والزوجةُ عند غضبِ الزوج ، فتتركه يشفى بما يقولُ ، ولا تعوِّلْ على ذلك ، فسيعودُ نادماً معتذراً ، ومتى قُوبل على حالته ومقالتِه صارتِ العداوةُ متمكِّنةً ، وجازى في الإفاقةِ على ما فُعِل في حقِّه وقت السُّكْرِ .
وأكثرُ الناسِ على غيْرِ هذا الطريقِ ، متى رأوا غضبان قابلُوه بما يقولُ ويعملُ ، وهذا على غيْرُ مقتضى الحكمةِ ، بل الحِكمةُ ما ذكرتُ ، وما يعقلُها إلا العالمون » .
*****************************************
حبُّ الانتقامِ سُمُّ زُعاف في النفوسِ الهائجةِ
في كتاب « المصلوبون في التاريخ » قصصٌ وحكاياتٌ لبعضِ أهل البطشِ الذين أنزلوا بخصومهم أشدَّ العقوباتِ وأقسى المُثلات ، ثم لما قتلوهم ما شفى لهم القتلُ غليلاً ، ولا أبرد لهم عليلاً ، حتى صلبوهُم على الخُشُب ، والعَجَبُ أن المصلوب بعد قتلِهِ لا يتألَّم ولا يُحِسُّ ولا يتعذبُ ، لأن روحه فارقتْ جسمه ، ولكن الحيَّ القاتل يأنسُ ويرتاحُ ، ويُسرُّ بزيادةِ التنكيلِ . إن هذه النفوس المتلمِّظة على خصومِها المضطرمةَ على أعدائِها لن تهدأ أبداً ولن تسعد ، لأن نار الانتقامِ وبركان التشفِّي يدمِّرُهم قبل خصومِهِمْ .
وأعجبُ من هذا أن بعض خلفاءِ بني العباس فاته أن يقتل خصومه من بني أمية ، لأنهم ماتُوا قبل أن يتولَّى ، فأخرجهم من قبورهم وبعضُهم رميمٌ فجلدهم ، ثم صلبهم ، ثم أحرقهم . إنها ثورةُ الحقدِ العارمِ الذي يُنهي على المسرَّاتِ وعلى مباهجِ النفسِ واستقرارِها .
إن الضرر على المنتقمِ أعظمُ ، لأنه فَقَدَ أعصابَه وراحته وهدوءهُ وطمأنينته .
لا يبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ | | ما يبلغُ الجاهلُ مِنْ نَفْسِهِ |
﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ﴾ .
*****************************************
وقفــــةٌ
« ليس للعبدِ إذا بُغِي عليه وأُوذي وتسلَّط عليه خصومُه ، شيء أنفعُ له من التوبةِ النصوحِ ، وعلامةُ سعادتِه أن يعكس فكره ونظره على نفسِه وذنوبِه وعيوبِه ، فيشتغل بها وبإصلاحها ، وبالتوبةِ منها ، فلا يبقى فيه فراغٌ لتدبُّر ما نَزَل به ، بل يتولَّى هو التوبة وإصلاح عيوبه ، واللهُ يتولى نُصرته وحفظه والدفع عنه ولابدَّ ، فما أسعدهُ من عبدٍ ، وما أبركها من نازلةٍ نزلتْ به ، وما أحسن أثرها عليه ، ولكن التوفيق والرشد بيدِ اللهِ ، لا مانعٍ لما أعطى ولا مُعطي لما منع ، فما كلُّ أحدٍ يُوفَّق لهذا ، لا معرفةً به ، ولا إرادةً له ، ولا قدرةً عليه ، ولا حول ولا قوة إلا باللهِ » .
سبحان منْ يعفو ونهفو دائماً | | ولم يزلْ مهما هفا العبدُ عفا |
يُعطي الذي يخطي ولا يمنعُه | | جلالُه عن العطا لذي الخطا |
*******************************************
لا تذُبْ في شخصيةِ غيرك
تمرُّ بالإنسان ثلاثةُ أطوار : طوْرُ التقليد ، وطورُ الاختيارِ ، وطورُ الابتكارِ . فالتقليدُ : هو المحاكاةُ للآخرين وتقمُّصُ شخصياتِهم وانتحالُ صفاتِهم والذوبانُ فيهم ، وسببُ هذا التقليدِ هو الإعجابُ والتعلُّقُ والميْلُ الشديدُ ، وهذا التقليدُ الغالي ليحمل بعضهُم على التقليد في الحركاتِ واللحظاتِ ، ونبْرةِ الصوتِ والالتفاتِ ، ونحو ذلك ، وهو وأْدٌ للشخصية وانتحارٌ معنويٌّ للذاتِ . ويا لمُعاناةِ هؤلاءِ من أنفسِهم ، وهم يعكسون اتجاههُمْ ، ويسيرون إلى الخلفِ !! فالواحدُ منهم ترك صوته لصوتِ الآخرِ ، وهَجَرَ مشيته لمشيةِ فلانٍ ، ليت هذا التقليد كان للصفاتِ الممدوحةِ التي تُثري العمر وتُضفي عليه هالة من السموِّ والرّفعةِ ، كالعِلْمِ والكرمِ والحلمِ ونحوها ، لكنك تُفاجأُ أن هؤلاء يقلِّدون في مخارجِ الحروفِ وطريقةِ الكلامِ وإشارةِ اليدِ !! .
أريدُ التأكيد عليك بما سبق : إنك خَلْقٌ آخرُ وشيءٌ آخرُ ، إنه نهجُك أنت من خلالِ صفاتِك وقدراتِك ، فإنه منذُ خَلَقَ اللهُ آدم إلى أن ينهي اللهُ العالم ، لم يتفقْ اثنانِ في الصورةِ الخارجيةِ للجسمِ ، بحيثُ ينطبق شكلُ هذا على شكلِ ذاك : ﴿ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ......﴾ الآية . فلماذا نحنُ نريدُ أن نتفقَ مع الآخرين في صفاتِنا ومواهبِنا وقدراتِنا ؟!
إن جمال صوتِك أن يكون متفرِّداً ، وإن حُسْن إلقائِك أن يكون متميِّزاً : ﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ .
************************************
المكظومون في انتظار لطْف الله
هذا الخطيبُ المِصْقعُ لا يلتوي لسانُه إذا تراكضتِ الألفاظُ في ميدانِ البيانِ ، بل يمضي ساطعاً صارماً متدفِّقاً .
هو خطيبُ الرسول r وحسْبُ ، وخطيب الإسلام وكفى ، كان يرفع صوته بالخطبِ بين يدي رسول اللهِ r لنصرةِ الدِّين ، إنه ثابتُ بنُ قيسِ بن شمّاس ، وأنزل اللهُ : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ . وظنَّ قيسٌ أنه هو المقصودُ ، فاعتزل الناس واختبأ في بيتِه يبكي ، وفقده رسولُ اللهِ r فسأل عنه ، فأخبره الصحابةُ الخَبَرَ ، فقال : (( كلاَّ ، بل هو من أهلِ الجنةِ )) .
فصارتِ النذارةُ بشارةٌ .
هناءٌ محا ذاك العزاء المقدَّما | | فما جزِع المحزونُ حتى تبسَّما |
وتبقى عائشةُ أمُّ المؤمنين – رضي اللهُ عنها – تبكي شهراً كاملاً ليلاً ونهاراً ، حتى كاد البكاء يمزِّقُ كبِدها ويفري جسمها ، لأنها طُعنتْ في عِرْضها الشريفِ ، العفيفِ ، فجاء الفرج : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ . وحمدتِ الله وصارتْ أطهر الطُّهرِ ، كما كانتْ ، وفرح المؤمنون بهذا الفتحِ المبينِ .
والثَّلاثةُ الذين تخلَّفوا عن غزوةِ تبوك ، وضاقْتْ عليهمْ الأرضُ بما رحُبتْ ، وضاقتْ عليهم أنفسُهم ، وظنُّوا أن لا ملجأ من اللهِ إلا إليه ، أتاهم الفرجُ ممنْ يملكُه – سبحانه- ونزل عليهم الغوْثُ من السميعِ القريبِ .
No comments:
Post a Comment